أنظر من نافذة الباص وأراقب جبال القلمون على الطريق الواصل بين دمشق وحمص، بعض قممها عند النبك مغطاة بالثلج، حين كنت صغيرة كنت أتخيل أن سلسلة الجبال هذه تنين نائم لا يظهر منه سوى حدبات ظهره، أبحث عن رأسه فلا أجده.
عند دوار تدمر وعلى الخط العسكري بانتظار مرور الحاجز المؤدي إلى حمص يقف ميكروباص صغير ألصق على زجاجه الخلفي شعار جمعية “عون الخيرية الإسلامية” وهو عبارة عن كف مفتوح يشبه كف ميدان رابعة تتداخل أصابعه مع أصابع يد طفل.
أتسرب إلى المدينة التي جاعت فأكلت أبناءها، والباقي أكلوا بعضهم بعضا، أبحث عن ذاكرتي فلا أجدها.
في تلك الساحة القريبة من مقبرة باب تدمر يصور جود مشهد شنق، وبينما يتم التحضير للمشهد أدخل إلى جامع قريب، يحرّك فيّ سكون المكان اطمئناناً، ثانية ساكنة من العمر لن تتكرر مرة أخرى. أصعد المنبر للمرة الثانية في حياتي وأتفرج على زرقة السماء من طاقة “فرج” فُتحت وسط القبة علّ أدعية الغائبين تصل أسرع إليه.
الرفوف تحتضن المصاحف المغبرّة، لم يلمسها مؤخراً أحد إلّاي، احتاج لفتوى، هل “أخذ” المصاحف من الجوامع المهدمة حلال أم حرام؟ أقلّب أوراقه المصفرة، فوق الصفحة الأولى من سورة البقرة كُتب بقلم أحمر: “اعتصام بنت فاطمة يا رب أطعمها غلام”.
يا ترى هل رزقت اعتصام بغلام؟ وإن كان كذلك فأين هما الآن؟ ففي الحارة كلها ثلاثة بيوت أو أكثر قليلاً بقيت صالحة للسكن وعادت لاحتضان ذكريات أصحابها، يتدلى الغسيل على شرفاتها المغطاة بشوادر الأونروا لتحجب ساكنيها عن جيرانهم في المباني المجاورة الشبيهة بالبسكويت المهروس أو المصافي المعدنية بشبابيك فارغة، في الحارة أيضاً بقالية صغيرة يتزاحم فيها جيل الحرب لشراء أكياس الشيبس والتفرج على التصوير.
أجلس في دكان مع عناصر المفرزة التابعة للحزب السوري القومي أداعب الجرو الصغير الذي تبنوه، مرح وحيوي ويحب الجميع، لكن أطفال الحارة يخافونه ويعبرون عن خوفهم برفسه كلما أقترب.
وهكذا نحن عبرنا عن خوفنا حين أكلنا بعضنا بعضا.
مشهد الشنق لم يجهز بعد، يدخل أحد عناصر المفرزة بمزاج رائق:
– معلم.. إذا ما ماتوا شنق.. شو رأيك استناولون بفشكتين؟
وضحكنا..
بعد ست سنوات أكثر من عادي نمزح حتى في الموت، دون أية دلالات أو تأويلات إدانة قد يذهب إليها البعض ممن لم يختبروه، فلا أكثر من النكت التي اخترعناها لنضحك على بؤسنا ونحاول الحياة ليوم إضافي آخر..
*****
في بيت مضيفنا مدفأة مازوت وسط الصالون تعطي إيحاء بالدفء، طاسة المازوت مغطاة بغطاء من الدانتيلا مربوط من الأعلى بشريطة ملونة، وفيه جيب خاص للقداحة، شُغِل بحب.
لكنها باردة.
بيوتنا تلتحف بالبرد ومدننا تلفها العتمة، وهناك جوع فوق الاحتمال.
أتساءل ماذا سيقول محمد الفارس إن مُنح فرصة أخرى لركوب مكوك فضائي والصعود به إلى الفضاء ليصف لرئيس الجمهورية ما يراه..
*****
سوريا.. كشظية زجاج صغيرة في القلب تخز عند كل نبضة.
وتدمر.. فتّت قطعة صغيرة أخرى من تلك الشظية فأوجعتنا مجدداً..
لكننا أثبتنا بأننا نستطيع تحمل الوجع طالما نؤمن بأن سوريا لنا كانت وماتزال، ما يؤلم حقاً أن هناك من غطت غلالة رقيقة قلبه فلم يلاحظ وسط هذه العتمة المختلطة بالدم بأننا “مدنيين” أيضاً.
13/12/2016
موقع قلم رصاص الثقافي