الرئيسية » رصاص ناعم » فقط في وطني، صدّق أو لا تصدّق

فقط في وطني، صدّق أو لا تصدّق

نارين عمر  | 

تُسأَلُ الفتاة التي تعلن عن خطبتها في وطني عن الخاطب الذي اقترنت به؟ تردّ على الفور ردّاً صاروخيّاً:

ألمانيا، أو بريطانيا،  سويسرا، بلجيكا، الدّانمارك؛ وتقول في نفسك: هي منتشية بخطبتها وعريسها، ولا تُلام على ذلك، فتتوجّه إلى أهلها وعائلتها بالسّؤال نفسِه، فيكون الرّدّ أشدّ اهتزازاً:

ألمانيا، بريطانيا، سويسرا، السّويد، وتظلّ تسأل: نعم، ولكن ما اسمه؟ هو ابن مَنْ، عائلته، أهله، مسكنه؟ وسيظلّون يقذفون عليك بالرّدّ ذاته.

إذاً هذه الدّول وغيرها باتت هي ملاذ الفتاة عندنا وهويّة شريك حياتها وأهله ومعارفه، وصارت العائلة تظنّ أنّها بذلك تنقذ ابنتها من جحيم الوطن أو ما قد يحلّ بها بالوطن، وأنّها ستكون جواز مرور جميع أفرادها ربّما إلى إحدى تلك الدّول هرباً من مصير مجهول الهويّة والنّسب ينتظرها، وينتظر مختلف شرائح مجتمعها وأبناء وطنها.

الفتاة توافق على الفور على خاطبها فقط لأنّه متواجد على أرض إحدى هذه الدّول أو غيرها، والأهل يوافقون من دون قيود أو شروط، من دون الالتزام ببعض الأمور التي كانوا يلتزمون بها سابقاً كالسّؤال عن الخاطب ونمط تفكيره ومعيشته، أو عن أهله ونسبهم وطباعهم وطرق عيشهم.

يحدث هذا في وطننا الذي كان أفراد العائلة يضعون خطبة ابنتهم على سلّم أولى أولوياتهم، ويبحثون لها عن رجل يحافظ عليها، يصونها، ويخلص للرّوابط الزّوجيّة المقدّسة؛ فكانت الأسرة تتمهّل، تستفسر، تتأنّى في اختيار الرّجل المناسب، والأسرة التي توافقهم، وتوائمهم في مختلف الأمور، ولكنّ تفكيرهم الآن وفي ظلّ الظّروف التي حلّت بالوطن منذ أعوام بدمويّتها ووحشيّتها جعلتهم يبحثون فقط عن إيجاد مَنْفَذِ خلاص لها دون أن يسمح لهم الزّمن بالتّفكير بأمور غيرها؛ ومنفذ الخلاص برأيهم يكمن في إرسالها إلى خارج أسوار الوطن دون أن يعرفوا أنّ هذا المنفذ، الخلاص قد يكون أسوأ بكثير من البقاء في الوطن على الرّغم من كلّ  ظروفه ومصائبه، فإذا تبيّن لهم فيما بعد أنّ قرارهم كان متسرّعاً وغير مجدٍ، وأنّ الخاطب أشدّ سوءاً وظلماً من مخرّبي الوطن، ومن مدمّريه وبائعيه، نجدهم وعلى الرّغم من ذلك يبرّرون قرارهم بأنّ العريس كان سيّء الخلق والطّباع، وخيّب ظنّهم فيه، إلّا أنّه تمكّن من إخراج ابنتهم من حدود الوطن، فهنا في هذه البلاد الحقوق مصانة، والابنة تستطيع متابعة حياتها بعيداً عن زوجها المضروب على أفعاله.

وهنا ألا يحقّ لنا أن نصرخَ وبأعلى ما نملك من صوت:

آهٍ! كم صار إنسان وطننا رخيص الثّمن والقدر، وهو الذي كان يعوم في العلوّ والسّمو أبداً! كم صار ضعيفاً يبحث فقط عن منافذ خلاص حتّى وإن عرف أنّها ستودي به إلى المذلّة والهوان، وهو المعروف بكبريائه وعزّة نفسه! كم بات

مغلوباً على أمره، مهزوماً، وكان الغالب، والقويّ! ماذا فعلت بنا هذه الحرب؟ ماذا فعلت بإنساننا الذي فقد الإحساس بكلّ شيء إلا بالخلاص والنّفاذ دون أن يلتفت إلى الوسائل والدّروب؟

ألا يُعْتَبر إنسان وطني من أكثر الناس بؤساً ويتماً وتعاسة في هذا العالم الواسع، العريض، والذي بات أمامه وله ضيّقاً كعشّ عصفورٍ حديث الولادة؟ والسّؤال الأخير الذي ما يزال يردّده إنساننا من عمق اليأس هو:

هل سيعودُ الوطنُ إلى حضنِ ذاته يوماً من متاهته التي لا تشبه المتاهات، ويحضنهم معاً كما كان منذ أعوام مضت بعد أن أدرك هو أن لا شعبَ يليقُ به سواهم، والشّعبُ صار على يقين مطلق أن لا بديل لهم عن الوطن وإن عاشوا فيه أدنى درجات المعيشة والحياة على الرّغم ممّا يلاقي بعضهم من أسباب العيش الهانئ والرّغيد هنا، في هذه الدّول التي آوتهم، واحتضنتهم ؟

فقط في وطني يحدث ما هو قابل لمقولة

“صدّق أو لا تصدّق”.

كاتبة وشاعرة سورية ـ ألمانيا | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *