نحن أمة مريضة بالشعراء، ومريضة بالطاغية. أتساءل عن علاقة محتملة بينهما، فلا أجد إلا صناعة الأصنام.
يحب الشعراء الصعود إلى المنابر، ولبس الياقات المنشاة بالتهريج الخفي واستدراج التصفيق والآهات.
يحبون كثيراً أن تقدم لهم المدائح مشفوعة بالتقديس والعبادة. وكنصف الهٍ، يتجول الشاعر في حارته ومدينته وهو ينظر شزراً إلى العوام. فعلى رأسه ريشة الشعر الزرقاء التي يستخدمها بمنتهى البراعة في مديح الطاغية، وسلب عقل العشيقة، ورثاء الجنود والشهداء. فيحصل على التصفيق الحار تماماً كما يحصل عليه الطاغية، نفس المسرح الحداثي، آلات الصوت الضخمة، جيوش مخبرين ترصد الأنفاس، جيوش أخرى تكتب وتصور وتوثق، خطابات بليغة عن الوطن، وعن التحديات العسكرية والحضارية التي تواحهها الأمة، حنين منكه بالابتسامات الزائفة، رش الأحلام في الهواء، اختراع الأحجيات السياسية والخطابية والوجودية، ومضاهاة الحكمة الفاسدة للدهر التي تجعل من الأموات الأصنام على سدة كل شيء.
هل الطاغية سوى صنم يعبد؟
هل الشاعر إلا مثله؟
هل نحن إلا ذاكرة الأصنام الجاهلية، أقصد، تلك القداسة الهائلة التي تستطيع غفران الذنوب كما تستطيع توفير الجنات الأرضية أو السماوية أو الشعرية. تاريخنا الديني والسياسي والشعري هو تاريخ الصنم بامتياز . نخلق أصنامنا ونقدم لها الخبز والماء والذهب وجمرات الروح. بينما تمارس هي علينا التحكم المتقن بالخلجات والآلام والعواطف.
لا علاقة لله اللطيف بتاريخنا الديني. الله الحزين لا علاقة له بشؤوننا. حيدناه ووضعناه في قفص.
وصرنا نعبد الأصنام التي تُحدثنا عنه، صرنا نفضل الرسل عليه، وبات البخاري وابن تيمية والشيخ العرعور والعريفي والبوطي وجميع الرموز الطائفية أهم من وصايا ذلك الإله
الجميل الذي تنحى بمحبته عن سفالتنا التي تشتمه ولا تجرؤ على هدم صنم خرفٍ واحد. أصنام الشعراء هي الأخرى تبعدنا عن الشعر الحق، والأسماء التي نطلقها عليهم تدعو للضحك، نكرس لاسمهم الجوائز والمنتديات، ونرتعد حين يعرف أحد نفسه بالشعر, والله لو اجتمع كل الشعراء العرب، وأقصد المهتوكين المرتقين بالألقاب في ساحة الدام في أمستردام الجميلة واستمروا بالقفز الجماعي ليل نهار. لما رفعت عينيها عن كتابها تلك المراهقة الجالسة على طرف الساحة وهي تقرأ وتعرض فخذيها للشمس الأم. والله..
لو اتفقوا على إيقاع الكامل وهدروا به، لما هزت زهرة رأسها من نشوة أو طرب.
والله.. نحن أمة مريضة بالبلاغات الفاسدة التي هي بالأصل إنتاج صناعة الأصنام العربية بامتياز.
في حضني كتاب الطاغية للدكتور إمام إمام، أسمع عبره الحشود الضخمة التي تهتف بحياة الزعماء العرب فتختلط في أذني بهتافات الجماهير في المهرجانات الشعرية . وكيف لا؟ والقلة النادرة الجميلة منهم استطاعت ألا تكون حذاءه !
وأعني حرفياً، أن ظلال العلاقة الغامضة بين الشاعر – الصنم وجمهوره ليست ببعيدة عن ظلال الطاغية.
ليسامحني بعض الأصدقاء الشعراء على الإقلال من قدرهم .لكن في أوروبا /الحضارة المعاصرة/ لا مكان لأشعارنا العربية المريضة التي ما تزال تضع قدميها في ماء التاريخ الأصفر الراكد.
وليسقط /الاقتصاد الأدبي/ الذي يصنع الجمال. أعنى أنه سقط فعلا مع أول طلقة استقرت في قلب عربي.
ولن يستطيع منافسة ثقافة الأصنام السائدة إلا بعد قرون.
شاعر وكاتب سوري | مجلة قلم رصاص الثقافية