الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهليّة بمحليّة (34)

يوميات حرب طائفية أهليّة بمحليّة (34)

ماذا لو نبتت داخلي شجرة كرز.. وأزهرت؟

في جزء من الثانية وأنا أراقب الزينة الحمراء المدوّرة الشبيهة بعناقيد الكرز على أشجار الميلاد عدت بذاكرتي لثوان إلى طفولة بعيدة، حينها.. كنا نسير في السوق أنا وأمي، في مدينة الطبقة التي باتت الآن أكبر معسكر لتدريب أشبال الخلافة في ولاية الرقة، كنت آكل الكرز.. وابتلعت كرزة ببذرتها خطأ، كان كرزاً حلبيّ حلو.

بعدها ظللت أياماً تؤرقني فكرة أن تنبت داخل بطني شجرة كرز.. ماذا كنت سأفعل حينها؟

*****

إنه الميلاد في دمشق، عاد السوريون لتزيين شوارعهم لكن بخجل على عكس السنوات السابقة الخالية تقريباً من أية زينة، فلا أحد قادر على الفرح، ثم أن الكهرباء مقطوعة على الدوام فما الفائدة من زينة لن يتمتع ببريقها أحد.

لكننا ومع مرور السنوات الست بدأنا اعتياد الحداد وبدأنا نخلع ملابسنا السوداء بتمهل.. دون عجالة، نستبدلها بألوان أكثر بهجة نتزين بها أمام الموت، فلا يمكن أن نظل نرتدي السواد أبداً.

ازدحام شديد وحواجز دمشق المتسلسلة شددت إجراءاتها الأمنية، أرتال من السيارات تقف لساعات بانتظار فتح الطبون وتفييش الهوية، وما أن ينتهي رتل يبدأ رتل آخر من الانتظار الطويل بعده بعدة أمتار، بينما أنا كعادتي أفضل السير على قدميّ..

انظر إلى أعلى، حيث الزينات الخجولة معلقة بين الشوارع الضيقة كشلالات من نور، المطر يتساقط على وجهي فأدوس في بركة ماء صغيرة دون انتباه ويبتل جرابي.. أمشي ورأسي إلى الأعلى لأراه ينهمر في الضوء وأتنشق رائحته.. مجموعة من الكشافة المتعجلين الضاحكين بصخب يصطدمون بي، يهنؤوني بالعيد ويعطوني كيساً صغيراً من السكاكر، ارتبكت.. أية بهجة شعرت بها ودمشق تعاود استعادة حياتها نفساً وراء نفس.

ما يحزنني فعلاً تقسيم برنامج التقنين الكهربائي المدينة بحدود مناطقية طائفية، فبينما وسط العاصمة يغرق في الظلام نتنعّم بالكهرباء بمناسبة الأعياد في مناطق أخرى حيث “نتعايش عيشاً مشتركاً”، ثم يسألونك من أين يأتي هذا الحقد والتمييز الطائفي بين البشر؟ ألا يعرف المسؤولين أن الكهرباء باتت مادة يمكن أن تُشعل حرباً كونية داخلية بين الجيران لندرتها؟ مؤكد، لا يعرفون.

وكهدية بمناسبة الأعياد أيضاً، مياه الشرب مقطوعة لأنها ملوثة، أتساءل ما كمية المازوت التي تسربت إلى نبع الفيجة حتى ما عاد صالحاً للشرب؟ ألا نستطيع مثلاً أن نكرر هذه المياه لنستخلص منها قطرات هذا المازوت الثمين لنكسب ساعتين من الدفء بدل انتظار صهاريج الفيول التي يستخدمها المسؤولين كحبة مسكّن للمواطن: بارجة الفيول في الطريق، وما عليكم سوى الانتظار قليلاً.. قليلاً بعد.. وقليلاً..

حين يصل سنشحن بطارياتنا الصغيرة التي بالكاد تكفي استطاعتها لساعات ما بعد الظهر والمساء، لتنير بضوء الليد الشاحب كتب ودفاتر الأطفال العائدين من المدارس، محاولين استذكار ما يمكن استذكاره في الظلام ليستعدوا ليوم مدرسي بارد آخر.

والآن لا ماء، لا كهرباء، لا غاز ولا مازوت… لا نملك شيئاً سوى الأمل والانتظار.. والتقاط الصور في طرقات الباب الشرقي على خلفية الأشجار الميلادية المزينة ومغارة سيدنا المسيح لنصدرها على صفحات الفيسبوك للعالم أجمع كي يروا بأن سوريا تحتفل أيضاً.

تركض أمامي مجموعة من الأطفال يرتدون أحمر العيد وقبعات مزينة بفرو أبيض فأفسح لهم الطريق، بابا نويلات صغيرة يحملون الأجراس وأكياس الهدايا، ومن المحلات المفتوحة والسيارات العابرة يلتقط الهواء البارد ترانيم فيروز الميلادية ويحملها بعيداً.

عند الباب الشرقي أتقاسم سيارة التكسي مع آخرين علقوا في زحمة الأعياد، يتذمر أحد الركاب من حال البشر وأخلاقهم ويشكو أنه محاط بكومة من الحثالات قد يكون أحدهم جاره الذي لم يعد يأمن جانبه يمكن أن ينقلب عليه في أي وقت ويسحب سكيناً. يعترض الشاب قربه على نظرية المؤامرة هذه قائلاً بأن الدنيا ما يزال فيها الخير، وأن الناس ليسوا سواسية في السوء كما يقول، أما السائق الستيني فيلتقط لهجة الشاب ويسأله إن كان من الدير.. وتنساب الذكريات بلهجة حنونة لم أسمعها منذ زمن عن العائلات الديرية وعن الأحياء وعن الحصار وعن الفترة التي تركوا فيها المدينة.

يتحدثون عن البيوت وعن آجارها، السائق يسكن على أطراف داريا منذ أربع سنوات لأن المنطقة أرخص من غيرها، يتدخل الراكب الذي يجلس قربه في الحديث ويخبرهم عن أم صديقه المهجرة التي تسكن سطحاً بنى عليه كشاش حمام غرفة سقفها من الاترنيت يؤجرها لها بخمسة وعشرين ألف ليرة، دون حمّام أو مطبخ.

أما أنا فأبقى صامتة وأستمع، محاصرة بين الباب والرجل الذي لم يعد يأمن جاره، أراقب من النافذة المتعرّقة بالبخار مجموعة من “الحرس القومي العربي” يحملون بنادقهم ويتشاجرون مع سائق لم يفسح المجال لمرور سيارة تويوتا مفيّمة.

25/12/2016

خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *