الرئيسية » رصاص ميت » مزحة.. قصة قصيرة لتشيخوف

مزحة.. قصة قصيرة لتشيخوف

ترجمة: أحمد حسن المعيني  |

كان يومًا شتويا مشرقًا، وكان صقيعٌ حاد، وكانت قطعٌ فضية منه تغطي الخصلات المتحدرة على جبين (نادينكا)، وأسفل شفتها العليا. كانت تتمسك بذراعي ونحن واقفان فوق تلةٍ عالية. ومن مكاننا حتى قاع الأرض امتد سهلٌ انعكستْ عليه الشمسُ بوضوحٍ وكأنه مرآة صافية. وإلى جانبنا كانت مزلجةٌ عليها قماشٌ أحمر اللون فاتحه.

رجوتها قائلا: “هيا بنا لنتزحلق للأسفل يا نادينكا. مرةً واحدة فقط. أؤكد لكِ أنه لن يحدث أي مكروه”.

ولكن (نادينكا) كانت خائفة. فالمنحدر الذي يبدأ من تحت حذائها الطويل إلى أسفل التلة الثلجية بدا مريعًا لها كأنه هاوية سحيقة. خانتها شجاعتها وحبست أنفاسها وهي تنظر إلى الأسفل، بعد أن اكتفيتُ بأن اقترحتُ عليها امتطاء المزلجة، ولكن ماذا لوكانت هناك مخاطرة بالسقوط إلى الهاوية؟ كانت ستموت، كانت ستفقد صوابها.

قلتُ لها:”من أجلي أنا، لا تخافي. لا يجدر بك الخوف، فهو مرضٌ للنفس وجبنٌ عظيم”.

استسلمت (نادينكا) أخيرًا، ومن ملامح وجهها أدركتُ أنها استسلمت وهي تختنق فزعًا. أجلستها على المزلجة، وهي شاحبة مرتعدة الأوصال، ثم طوّقتها بذراعي، ودفعتها وأنا معها إلى أسفل الهوة السحيقة.

انطلقت المزلجة كالرصاصة، والهواء المندفع بفعل تحليقنا ضرب في وجوهنا بكل قوته وهديره، ثم أطلق صفيره الحاد في آذاننا، وتمزّق على أجسادنا، ثم اشتدت قرصاته في وهج غضبه وحاول أن يقتلع رأسينا من على أكتافنا. كنا بالكاد نتنفس تحت ضغط الريح. بدا الأمر وكأن الشيطان نفسه أمسك بنا بمخلبيه وأخذ يسحبنا إلى الجحيم تتبعه زمجرته. كل ما كان يحيط بنا ذاب في خطٍ رفيع طويل طويل يتسارع بشدة. لحظة أخرى وبدا أننا لا بد هالكان.

قلتُ بصوتٍ خفيض: “أحبكِ يا ناديا”.

بدأت المزلجة تتباطأ في حركتها أكثر فأكثر، وخَفتَ هدير الريح وطنين الهواء، وغدا التنفس أسهل، وأخيرًا وصلنا إلى الأسفل. كانت (نادينكا) أقرب للموت منها إلى الحياة. كانت شاحبة لا تكاد تتنفس، فساعدتها على النهوض.

قالت وهي تنظرُ إليّ بعينين ملؤهما الرعب: “لا شيء سيجعلني أكرر ذلك. لا شيء في هذا العالم كله. كدتُ أموت”.

بعد دقائق استعادت اتزانها ونظرت إليّ بتساؤل، هل نطقتُ فعلا بتلك الكلمات الثلاث، أوأنها تخيلتْ ذلك في غمرة الإعصار؟ جلستُ بجانبها أدخّن وأنظر بإمعانٍ في قفازي.

تأبطتْ ذراعي وقضينا وقتا طويلا نمشي قرب التلة الثلجية. من الواضح أن اللغز أرهقها. هل سَمِعَتْ تلك الكلمات أم لا؟ نعم أم لا؟ نعم أم لا؟ كانت مسألة كبرياء أوشرف، مسألة حياة..كانت مسألة في غاية الأهمية، بل أهم مسألة في العالم. ظلت (نادينكا) تنظرُ في وجهي بنفاد صبرٍ وحزن نظرة حادة. كانت تجيبُ بعشوائية، تنتظر ما إذا كنت سأتكلم أم لا. ياه، يا لهذا اللعب بالمشاعر على هذا الوجه الجميل! لاحظتُ أنها كانت تصارع نفسها، وأنها كانت تريد قول شيء، تريد أن تسأل سؤالا، ولكنها لم تجد الكلام. شَعَرَتْ بأن الفرحة تسقيها حَيرةً وخوفًا وارتباكًا.

قالت من دون أن تنظر إليّ: “لدي فكرة”.

فسألتها: “ما هي؟”

– هيا بنا..نتزحلق للأسفل مرة أخرى.

عانينا في تسلق التلة الثلجية من الدرجات مرة أخرى. أجلستُ (نادينكا)، وهي شاحبة مرتعدة الأوصال على المزلجة. مرةً أخرى طرنا نحوالهاوية الرهيبة، ومرة أخرى قابلنا هدير الريح وطنين الهواء، ومرة أخرى عندما كان انحدارنا في أصخب لحظاته وأسرعها، قلتُ بصوتٍ خفيض: “أحبكِ يا ناديا”.

عندما توقفت المزلجة، رشقتْ (نادينكا) ببصرها التلة التي انزلقنا عليها، ثم تفرستني بنظرة طويلة، وأرهفت السمع لصوتي الذي لم يكن فيه مثقال ذرة من اهتمام اومشاعر. وكلّ جسمها، كل جزء منه، حتى الفراء والقبعة عليها أصدر أقصى علامات التعجب، وعلى وجهها أسئلة محيّرة: “ما معنى هذا؟ من نطق بتلك الكلمات؟ هل قالها، أوأنني تخيلتها فقط؟”

أقلقها ذلك الشكُ وأفقدها صبرها. لم تجب الفتاة المسكينة على أسئلتي، وعبست، وبلغت أدمعها طرف جفنيها.

سألتها: “ألم يكن من الأفضل لوذهبنا إلى البيت؟”.

قالت هائجة: “أنا..أنا أحب هذا التزحلق. هلا تزحلقنا مرة أخرى؟”.

لقد “أحبّت” التزحلق، ولكنها عندما ركبت على المزلجة، كما في المرتين السابقتين، كانت شاحبة مرتعدة الأوصال بالكاد تتنفس من فرط الفزع.

تزحلقنا للمرة الثالثة، ولاحظتُ أنها كانت تحدق في وجهي وتراقب شفتيّ. ولكنني وضعتُ منديلي على شفتي، وسعلتُ، وعندما وصلنا إلى منتصف التلة استطعتُ أن أتمتم ب”أحبكِ يا ناديا”.

وبقي اللغز لغزًا. كانت (نادينكا) صامتة، تتفكر في شيءٍ ما. رافقتها إلى البيت، وحاولتْ أن تمشي ببطء، تخفف سرعتها تنتظر ما إذا كنت سأقول لها تلك الكلمات أم لا، ولاحظتُ كيف أن روحها كانت تعاني، وكيف كانت تجتهد كي لا تقول لنفسها:”لا يمكن أن تكون الريح قد قالتها. ولا أريد أن تكون الريح هي التي قالتها”.

في الصباح التالي تركتْ لي رسالة جاء فيها: “إن كنت ذاهبًا للتزحلق اليوم، خذني معك. ن”.

ومنذئذٍ بدأتُ أذهب كل يومٍ للتزحلق مع (نادينكا)، وبينما نحن نطير بالمزلجة، كنتُ أقول في كل مرة بصوتٍ خفيض نفس الكلمات:”أحبكِ يا ناديا”.

وسرعان ما اعتادت (نادينكا) على تلك العبارة وأدمنتها كالكحول أوالمخدر الذي لا فرار منه. لم تستطع العيش من دونها. نعم كان التزحلق فوق التلة الثلجية يرعبها كما كان في السابق، ولكن الخوف والخطر أضفيا سحرًا غريبًا على كلمات الحب. تلك الكلمات كما كانت دومًا، لغزًا يحير النفس ويعذبها تشويقًا. وبقيَ المشتبهان كما هما، أنا والريح. لم تكن تعرف أيا منا كان يمارس الحب معها، ولكنها بالتأكيد بدأت تفقد الاهتمام بذلك. ما دام الشرابُ مُسكرًا كلُ الكؤوسِ سواءُ.

وحدث يومًا أن ذهبتُ إلى ساحة التزلج وحيدًا، وبينما أنا بين الجموعِ رأيتُ (نادينكا) تصعد التلة الثلجية وتبحث عني، ثم نزلتْ من على الدرجات في حياء. كانت تخافُ أن تذهب بمفردها. يااه كم كانت تخاف! كانت بيضاء كالثلج، ترتعد، وكأنها تسوق نفسها إلى مقصلتها. ولكنها ذهبت، ذهبت دون أن تنظر وراءها، بإصرار. من المؤكد أنها قررت وضع الأمر في محك الاختبار أخيرًا. هل كانت تلك الكلمات الجميلة ستُسمع من دون وجودي؟ رأيتها شاحبة، انفرجت شفتاها بفزع، وركبت على المزلجة، فأغمضتْ عينيها لتقول للأرضِ وداعًا إلى الأبد. تزحلقت.. لا أعرف ما إذا كانت (نادينكا) سمعت تلك الكلمات أم لا. رأيتها فقط تنهض من على المزلجة باهتة المنظر شديدة الإعياء. وكان من السهل الجزم بالنظر إلى وجهها أنها لم تكن متأكدة ما إذا سمعت شيئا أم لا. لقد حرمها فزعُها وهي تطير إلى الأسفل حاسة السمع، وتمييز الأصوات، والفهم.

وجاء شهرُ مارس، وأتى الربيع بأبهى حلله. أظلمت تلتنا الثلجية وفقدت بهاءها، وذابت. وهكذا توقفنا عن التزحلق. لم يكن هناك مكانٌ آخر تستطيع فيه المسكينة (نادينكا) سماع تلك الكلمات، وبالتأكيد لا شخص آخر يقولها، حيث لم تكن هناك ريح، وكنتُ أنا ذاهبا إلى (بيترزبيرغ) لمدة طويلة، وربما للأبد.

وحدث قبل يومين من رحيلي أن كنتُ جالسًا عند الغروب في الحديقة الصغيرة التي يفصلها عن فناء منزل (نادينكا) سورٌ عالٍ عليه مسامير. كان الجوما يزال باردًا، وبعض الثلج ركامٌ هناك قرب كومة السماد، وبدت الأشجار ميتة، ولكن عبق الربيع كان منتشرًا، والغربان تنعق وهي تأوي إلى منامتها. صعدتُ على السور ووقفتُ هناك طويلا وأنا أختلس النظر من خلال شق. رأيتُ (نادينكا) تخرج إلى الفناء وتحدق في السماء بعينين ملؤهما اللهفة والحسرة. كانت رياح الربيع تهب في وجهها الشاحب الكئيب. ذكّرَتها بالريحِ التي كانت تهبّ علينا على التلة الثلجية عندما سَمِعَتْ تلك الكلمات الثلاث، وغدا وجهها حزينًا جدًا جدًا، وانزلقت دمعة على وجنتها، ورفعت الطفلة المسكينة ذراعيها وكأنها تتوسل إلى الرياح أن تجلب لها تلك الكلمات مرة أخرى. وفي انتظار الرياح قلت بصوتٍ خفيض:”أحبكِ يا ناديا”.

وحلّت الرحمة. يا لذاكَ التغير الذي حدث ل(نادينكا)!. اغرورقت عيناها بعبراتها، ثم ملأت وجهها ابتسامة عريضة، فبدت مرحة وسعيدة وجميلة، ورفعت ذراعيها لتستقبل الرياح.

وعدتُ أدراجي لأحزم أمتعتي.

كان هذا منذ زمنٍ بعيد. (نادينكا) الآن متزوجة. لقد تزوجت -ولا يهم ما إذا كان ذلك باختيارها أم لا- ولديها الآن ثلاثة أطفال. ولم تنسَ أننا ذهبنا ذات مرة للتزحلق، وأن الرياح حملت لها الكلمات “أحبكِ يا نادينكا”. بالنسبة لها، كانت هذه هي أكثر اللحظات المؤثرة والجميلة في حياتها.

ولكن الآن وأنا أكبر سنًا أعجز عن أفهم لماذا نطقتُ بتلك الكلمات، وماذا كان هدفي من تلك المزحة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

أيمن ناصر … انطفأ قنديل آخر

رحل الفنان التشكيلي والنحات والروائي الفراتي أيمن ناصر إثر صراع مع المرض في مدينة أورفا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *