لم أكن أملك مكتبة كبيرة، إذ أني حين شرعت للتو في إنشاء مكتبتي الخاصة راحت مدينتي (الرقة) ضحية لبرابرة الخراب الذين افترسوها في غفلة من الزمن، كان لدي آنذاك مئات الكتب وكان حلمي أن أوصلها إلى الألف، وكانت تسعدني تلك الكتب التي تحمل إمضاءات كتابها لي ممن كنت ألتقيهم على هامش الفعاليات الثقافية التي كانت لا تخلو منها مدينة الرقة التي كانت منذورة للثقافة والأدب والفن والموسيقى.
وككل السوريين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لمغادرة منازلهم ومدنهم ووطنهم تاركين خلفهم كل شيء، شغلتني كتبي كثيراً لكن لم يكن بوسعي أن أفكر مجرد تفكير بنقلها، واكتفيت في النهاية بإلقاء نظرة سريعة وخاطفة على بعض العناوين واخترت ثلاثة كتب لترافقني رحلة هروبي.
أثناء استقراري في بيروت وجدتني لا شعورياً أشرع ببناء مكتبتي الحلم مجدداً، وكلما وجدت لدي بعض الوفر أذهب وأشتري الكتب وأحياناً على حساب أمور أخرى قد تكون أهم بكثير في وقتها، إلا إني كنت أسيراً لسوسة الكتب، وما أن جمعت بعضها كنواة لمكتبتي المستقبلية وجدت نفسي مضطراً للهجرة القسرية إلى بلاد بعيدة في رحلة الموت، وما كان بوسعي أن أحمل كتبي معي وأودعتهن عند بعض الأصدقاء.
يبدو الحديث حتى اللحظة شخصياً وقد لا يعني القارئ، إلا أن من أضطروا لفراق كتبهم يدركون معناه جيداً، وأبعاده ومراميه، ولعل ما ذكرني به الحديث الذي تم تداوله مؤخراً حول مكتبة المسرحي الراحل سعد الله ونوس، وانقسام الشارع السوري بين مؤيد ومعارض لتبرع أرملة الأديب بمكتبته للجامعة الأمريكية في بيروت، ولست بصدد الخوض في هذا الجدل إلا أني أردت القول إن المكتبة مهما كانت كبيرة أو صغيرة تُشكل عبئاً حقيقياً على صاحبها وربما على ذويه من بعده.
أخبرني أهلي منذ أشهر أنهم اضطروا لإحراق كتبي جميعها، حتى كتب البكالوريا وأرشيف الصحف من عام 2006 حتى 2013، عرفت لاحقاً أن أهلي أخفوا الخبر عني لأشهر طويلة فهم يعرفون ما تعنيه تلك الكتب لي، وإن أسهبت في الحديث عن مكتبتي الحلم التي لم أتمكن من جعلها حقيقة ماثلة أمامي حتى الآن، لن أفوت الحديث عن المكتبة الأضخم في المدينة والثانية في القطر وهي مكتبة المركز الثقافي التي رأيتها بأم عيني تحترق بقذيفة طائرة حربية، واختلط دخان التاريخ بالجعرافية والأدب بالفلسفة واللغات والعلوم، ثم أضطر العم أحمد الخابور صاحب مكتبة بورسعيد أقدم مكتبات الرقة لإحراق مكتبته التي تضم نفائس الكتب والمراجع، وكذلك رُميت مئات الكتب التي تعود لمكتبة الأديب والكاتب الراحل محمد جاسم الحميدي في حاويات القمامة تحت جنح الظلام.
هذه هي الذكريات التي حضرتني عن المكتبات التي عرفتها أو عرفت أصحابها من أهل مدينتي ممن نذروا أنفسهم للثقافة ولكنهم هذه المرة كانوا مضطرين لإحراق مكتباتهم بأيديهم، ولا يمكننا أن ننكر أن هذا المصير المحتوم لكل التراث والقيم في ظل هذه الحرب المجنونة التي تعيشها بلادنا، لذلك من يستطيع النجاة بمكتبته فليفعل لأنها في النهاية ستحترق وقد تحرقه معها، شرط أن لا تكون تلك النجاة كمستجير من الرمضاء بالنار، فربما في تلك الحالة وفي ظل وجود حكومة بعيدة كل البعد عن الثقافة سيكون ترك المكتبة كبيت الوقف أفضل خيار.
رئيس التحرير