لا مكان في هذه الأرض على اتساعها لامرأة جدية، امرأة وجدية، معادلة ثقيلة الهضم على معدة هذا العالم، الذي غالباً ما سيلتهمها كقطعة حلوى شهية، ثم سيتقيأها مباشرة، ويمسح بمنديل بقايا طعمها المر، وهو يلعن في داخله شهوة الصورة.
تنشأ المرأة ـ في الشرق خاصة ـ على عادات وتقاليد صارمة، لا تفعلي هذا وذاك، لا تضحكي بصوت مرتفع، لا تأكلي بشهية أمام الضيوف، لا تخالطي الغرباء، لا تصادقي الشباب، لا تفتحي رجليك كثيراً! ومهما كان والداك متسامحين معك نوعاً ما، فسلطة المجتمع أقوى، أذكر أنني وزميلاتي في المدرسة زينا الصف في إحدى المرات بالحكم والعبر، وضعنا بيتاً واحداً عن الحب:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى…،
أثنت المعلمات حينها على كل العبارات، وأكملن: “لولا هالعلاك المصدي”، كان المقصود بيت أبي تمام، تربينا أن المشاعر “علاك مصدي”، وأن الحب مدعاة للشعور بالخزي والعار، تربينا لنكون محترمات وجديات، محملات بمسؤولية غامضة، ومعبئات بالانكماش، تفهم البنت سريعاً أن الحياة لا تحتمل هذه الجدية، وأن ستبقى على شاطئ الأيام، ولن تبحر بعيداً لو احتفطت بهذا الهراء، تقارن نفسها بالمرأة بأمكنة أخرى من العالم، فتدرك أنهن تجاوزن أيضاً تفاهة الجدية، وأن مجتمعاتهن بصيغة أو بأخرى لم تأخذهن على محمل الجد حقيقةً، رغم أن بعضهن يعشن في بلاد قانون وعدالة، لكن أجورهن مثلاً لا تتساوى مع الرجل حتى لحظة كتابة هذه السطور، كما أنصح بالعودة لحلقة أوبرا ونفري الشهيرة التي ناقشت فيها كيف تتغابى المرأة الأمريكية لتحصل على رجل، العالم يريد من النساء الهزل، فليكن، يتصالحن مع الموضوع تماماً تتحول الجدية التي نشأن عليها لقناع يضعنه، وينزعنه وقتما يردن، يخلقن أجوائهن الخاصة، كيد ونميمة وأعراس وكناين وحموات وغروبات “بيتي وزوجي وديني”، و صفحات “حجابي سر سعادتي”، كر وفر، يتخففن فيه عندما يردن، يسقطن “أتخن” رجل في شباكهن، ويصفعن آخر لا يعجبهن، مع صراخ الواحدة منهن في وجهه: أنا بنت محترمة وجدية!
هناك صنف آخر أكثر جرأة يستهويهن التمرد، غالباً جماعة الفن والثقافة، يكسرن قناع الجدية على الملأ، العالم يريد أنثى خفيفة، يتخففن، يخاطبن الرجل بأبو السوس وأبو الرود وأبو الفود وأبو بطيخ الجزر، يقهقهن عالياً ويكشفن مساحات واسعة من صدرهن، ويدخن سيجارة بتحد كبير، ويخزقن أنفهن ويتحدثن عن الجنس بشراهة وجرأة، ويسكرن في مقاهي الدرجة الثالثة، ويطلقن النكات ليكن كووول عطول، وليحظين بالقبول والرواج ضمن وسط يدعي الانفتاح طبعاً، وخصوصاً أنهن أحرقن السفن، وما عدن يستطعن العودة لارتداء القناع..
كل ما سبق رائع، المرأة كائن شديد الذكاء والتأقلم، فوق الطاولة تحت الطاولة تتأقلم، في الحقيقة المشكلة ليست فيما سبق على الإطلاق ، تستطيع المرأة أن تتخلص من الجدية بسلاسة، المشكلة هي أن تكون المرأة جدية فعلاً.
يؤسفني كثيراً أنني امرأة جدية، لا مفر من الأمر، ليس سراباً، ليس وهماً، ليس مجرد حالة أحب أن أتقمصها وأعيش فيها، عشت أكثر من ربع قرن مع نفسي، وسام الخطيب امرأة جدية لا محالة، تربيت بمجتمع جدي بالتأكيد، العجيب أن هذه التربية توافقت مع ميولي الفطرية في الانعزال والتقوقع، وأن كل الكتب التي حشوت بها رأسي مالت لكفة الجدية، لم أندمج يوماً مع نساء الصنف الأول، وعندما بدأت الكتابة والنشر لم أندمج مع نساء الصنف الثاني، لدي بعض الصديقات الجديات، عددهن قليل جداً، نتعكز على بعضنا أحياناً، القناع الذي استخدمه هو قناع الهزل، في لحظات قليلة تنتابني الرغبة في أن أكون محبوبة وطبيعية ضمن العرف السابق، أتظارف وألقي نكات سمجة، قد اتكئ على أنوثتي، وأضع صورة جميلة، وأتحول لمهرجة تقبل تمثيل دور تافه في مسرح الحياة التافهة، الحقيقة هي أن عيوني لا تلمع إلا في عندما أكون جدية، كنت أتوهج مثلاً عندما أناقش حلقة بحث في الجامعة أمام مئات الطلاب، أشع مثل جوهرة، استطعت أن أحصل أحياناً على هامش يحترم جديتي..
أشكر من قلبي كل من يتبنّى خلق هذه الهوامش، لا أستطيع تغيير العالم، لا أستطيع تغيير نفسي ،في النهاية كان الورق الأبيض مساحة للعمل الجاد، ليس لدي الكثير من القناعات الراسخة، تكاد تكون قناعتي الوحيدة: الكتابة هي المشروع الذي أستطيع أن أفسر فيه روحي.
موقع قلم رصاص الثقافي