الرئيسية » مبراة » من “google” أطل يا وطني

من “google” أطل يا وطني

سيطرت علي عادة منذ أشهر، ولست أدري إن كانت جيدة أم سيئة، لكني أعتقد أنها أصبحت عادة لدى أغلبية المُهجرين، صرت ودون أن أشعر أجدني أفتح برنامج google earth، وأبدأ بالتجول في وطني، زرت الجولان أكثر من مرة، وصعدت قمة جبل الشيخ، وكذلك لواء أسكندرون، يمنحني ذلك شعوراً جميلاً، لأنني أتجول دون أي خوف، وبين الجولان وأسكندرون أعرج إلى دمشق دون أن أخاف من الحواجز، أو من كُتاب التقارير أو عسس المخابرات، بل صارت تزيد متعتي في كل مرة وأنا أحلق عالياً في سماء سورية دون أن أخاف من الطائرات الحربية التي مزقت سماء بلادنا بشتى أنواع القذائف والصواريخ، لكني لم أرَ عصافيراً في تلك الأجواء كانت سحب الدخان الأسود تطغى على كل شيء آخر. 

لم أستطع الوقوف على قمة جبل قاسيون، فهو صار كمن يجلس فوق فوهة بركان، فتابعت رحلتي دون أن تشغلني الأعلام والرايات الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء، عبرتها جميعها دون أن أخاف أو ارتبك، لم أفكر بحجة مناسبة لغيابي كل تلك هذه المدة، ولست بحاجة إلى إبراز هويتي المكسورة، وفر علي التحليق في غوغل مئات الأسئلة وآلاف الضربات والنعرات والشتائم..

أخيراً أتابع رحلتي إلى الرقة، مسقط رأسي ومربى الطفولة، في غوغل ما زالت الجسور قائمة على نهر الفرات ولم يهدمها الأمريكان، عرفني النهر جيداً لكني لم أعرفه فقد تغيرت ملامحه كثيراً، بعد أن قّلم البعثيون أظافره وقصوا شعره وأدخلوه مدرسة الثورة، جاء من اغتصبه وانتهك حرمته ودنس طهارته فشاخ مُبكراً، وهذا حال الأنهار إن ولغت بها الكلاب، تشيخ قبل أوانها، لم يسألني أحد عن صلاتي وصيامي وبنطالي وطريقة قص شعري، تغيرت ملامح المدينة كثيراً وكأنه ليس الربيع الذي كانت تزهر فيه، أصبحت معالمها الرئيسة ركاماً.

لست مضطراً في غوغل أن أراجع أمير الكراجات لأخبره أني عدت، ولن أمكث في الحسبة لأيام من أجل الاستتابة والخلاص من الأفكار الشيطانية التي أكتسبتها وأنا في بلاد الكفار، تركت الشوارع الرئيسة ورحت أتجول في الحارات الفرعية، في كل زاوية ذكرى، وفي كل متر مربع حكاية، منها الحزين ومنها المُفرح إلا أننا في غربتنا القسرية نشتاق حتى لأحزاننا في الوطن، ما عاد مميزاً أن أقول لسائق التكسي خذني إلى شارع المقبرة، فكل الطرقات في مدينتي صارت تودي إلى المقبرة، وما عادت للجنازة هيبتها رتل طويل من السيارات تسير بانتظام خلف النعش ونحن أطفال نشغل أنفسنا بعد السيارات المشاركة في التشييع، نحب الجنازات أكثر من الأعراس، في الجنازات لن ينهرنا أحد ونحن نصعد صندوق أي سيارة، بينما يطردوننا في الأعراس.

لم يتغير بيتنا كثيراً، ففيه كل الحياة، أرى أمي وهي تنتظر عودتنا، تخفي عني كل ما يكدرها وتصر أنها بخير، وأن اللقاء قريب، وأن عيدها سيكون كما كان دائماً بنجاحنا في حياتنا، وأسمع صوت فيروز في غرفتي ما زال يصدح “راجعين يا هوى راجعين” فأقبل يدها وتضمني، وقبل أن أغرق بدموعي، أصحو من حلمي على صوت مفخخة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *