عساف سلمان |
كانت عندها دقة بالمواعيد وانضباط منقطع النظير. تنطلق من المحطة الثانية متجهة نحو الشرق إلى المحطة الأولى، ويرافقها كلبها مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال. يسبقها أحياناً ببعض أمتار أو يتخلف عنها بالمثل. تتحدث إليه بلغة لا يفهما سواهما. لقد أحضرته معها من بلاد الاسكندناف. شكله غريب ولم ير أهل المنطقة مثله من قبل. كان هذا كله في بدايات السبعينات من القرن الماضي. كان زوجها يدعى مستر يول، رجلاً حكيماً وحليماً. عندما يأتي مستر يول، يقف كل عمال المحطات له احتراماً وتبجيلاً. لا يملك سوطاً ولا سلطة، سوى أنه إنسان.
يمتلك التواضع وحسن الخلق. متخصص بعلم الحيل (الميكانيك) ولديه معلومات جمة في علم الكهرباء. يشرف على إدارة محركات ضخ المياه إلى مدينة حلب.
تمر المرأة الجميلة ولا نعرف اسمها الحقيقي فقط (الدنمركية) لأنها جاءت من هناك. تمر بجوار بيتنا، نتراكض نحن الأطفال نحوها، توزع علينا بعض الحلوى والسكاكر، لا يوجد لغة تواصل بيننا سوى الإشارات. امتلكت قلوب الأطفال والكبار بأناقتها ورقي أخلاقها. تلقي التحية على كل من يصادفها، تتحلق بعض النسوة حولها يحاولن تحسس بشرتها من بياضها ونعومتها. كل واحدة تتمنى أن تكون بطولها وبجمالها.
بعضهن، وفيهن نوعاً من الحسد، ينتقدن الزنخة التي تخرج من جسدها. وكل منهن تحاول تفسير ذلك السبب، فتكون الإجابات: إما لطبيعة الطعام الذي تتناوله أو الشراب الذي تجرعه. تتنتظر الدنمركية مع زوجها إلى وقت العصر ويعودانأدراجهما مع كلبهما المدلل.
مستر يول، بتواضعه وطريقة تفكيره اأدث تغييراً بنفسية العمال وأصبحوا يخجلون من مجيئهم إلى العمل متأخرين، بدأ حبهم للعمل وبات زيادة الإنتاج واضحاً. يستأنسون بمشاركته أكل البطاطا المشوية على اشطمانات المحركات العملاقة. وكان يحدثهم عن عوالم مختلفة أثناء أوقات الفراغ. يشعرون أنهم أمام صندوق الدنيا وهو يسرح بخيالاتهم.
إذا تعرض أحد العمال لأزمة مالية أو حاجة، كان يتوجه إلى مستر يول الذي لا يرد سائلاً. كان مستر يول أخاً وصديقاً للجميع واندمج بيسر مع الآخرين بأفراحهم وأتراحهم.
وبعد ثلاث سنوات تقريباً، عاد مستر يول إلى بلاده وترك العمال والمحطات لآخرين من الوطن.
وتسلم أحد الوطنيين زمام الأمور، وكان يجمع العمال وبين الفينة والأخرى، يخرج النطاق العسكري الذي يرتديه بالعادة. ويهددهم بالجلد والعقوبات المادية والمعنوية. وجمع من حوله مجموعة من اللصوص وشهود الزور لتلفيق التهم.
وبدأ الكثير من العمال يتذمرون ولا يستطيعون أن يثوروا عليه لأنه مرتبط مع المتنفذين والكبار، فقرر بعض العمال المساكين والأحرار أن يتركوا العمل ويهجروا الوطن، وتوجهوا إلى بلاد الاغتراب ورفضوا التسبيح باسمه كما فعل غيرهم بالغداة والعشي، وقالوا للظالم: “طز بيك وبالمحطات”.
موقع قلم رصاص الثقافي