عمار عكّاش |
بأَناةٍ حفرتِ ورائي أنتِ وعمّالكِ المفتولي العضلات، ستكونُ جثّتي دليلكَ على حُسن حِسّك الأكاديميّ، وليس حتى جثتي، بل شعري، وعظامي.
بأناةٍ مثل غفيرِ نملٍ يُعمُّر عشّهُ في الرّملِ يا ملكة النملِ حفَرْتِ وراء جثّتي، صاح أحد عمّالِك بصوتٍ ذكوريٍّ أجشّ بإسبانيّةٍ لاتينيّةٍ، وكان يحمل ملامح سُكّانٍ أصليّين متعرّقة مُغبَرَّة: ((عثرْتُ على جثّــتهِ)) وفي سرّهِ قال: ((عثرْتُ على جثةِ جدّي))، إنه سموّ بياضِ العظامِ الذي لا يحتملُ أكثر من تأويلٍ ينتصرُ على نظرية العرق الأبيض والأسود.
لمعتْ عيناكِ، وخطأً ظننتُ أنكِ وقعتِ في غرامِ جثّـتي من النظرة الأولى، وحسبتُكِ امرأةً إيطاليّةً تحبّ النبيذ والورد قالت لي حين غادرتني إلى بلادها: ((أومِنُ أنْ سنلتقي يوماً))، ولم تكلّف نفسها حتى عناء مراسلتي.
طيرُ الهَامَةِ** الزاعق منذ عشرينَ عاماً كان يصيح مسّدي عظامه خذي ثأره، كان طائري يظنّ أنك تتسائلينَ أيَّ ذَكَرٍ كُنْتُ؛ وسيماً، قبيحاً، عاديّاً لكن يستثير الشهوات؟!، لم نكن كلانا يعلم أن وجهكِ كان محتفياً، مشرقاً بانتصار نظرية الإبادة…
لكلِّ مهزومٍ طقوس العزاءِ، ونحن بشرٌ نعيش وراء البحار، نحلمُ بفردوسنا في البلادِ البعيدة، نَقُدُّ نسوتها في أحسنِ تقويمٍ، لذلك أوجزتكِ في نقْرِ خطوات التانغو وقبعة الجنرال.
ولعزاء ذاتيٍّ خالصٍ رأيتكِ رقيقةً شفّافةً مثل عدسةِ المجهر، وشَمَمْتُ عطركِ فاغماً بين نخزِ ولسعِ روائح المختبر، ولعزاءٍ ذاتيٍّ خالصٍ ملأْتُ شفتيكِ أكثرَ لتصبر على عضِّ أسناني المنتصرةِ على الإبادة، واشتعلتْ عيناكِ أبهى وراء نظّارتين مثل شمعِ رأس سنتي الوحيدِ، وتأّلقَتْ أيضاً جثّـتي معروضةً وراءَ بلّورِ متحفِ الإبادة...
وبعد يومينِ وأنت تطبعين تقريركِ خائبةً، حانقةً عليَّ، وللدقّةِ العلمية فقط حانقةً على جثتي لا عليَّ: (( كان شاعراً مغموراً انتفخ قلبه فلا أثر لفوّهةِ الدخول والخروج، أو عظمٍ مهشّم، ربما انتفخ قلبه بثقل أوهامه، له ديوانٌ واحدٌ مَنحولٌ من يوميّاتِ الحربِ طُبِعتْ منه ألفا نسخةٍ بالعربيّة، وحين انتهتْ الحرب، انتفخ مثل بالونٍ، وأظنّه قطعَ وريده…)). حينها تمتم شبحي محتجّاً يعتذرُ منكِ وقد خابَ ظنّكِ في جثتي:
(( حين تفحصينَ بأصابعكِ المغطّاة بقفازِ المطّاطِ جمجمتي المعفّرة، حين تمرّين على المحجريْنِ، وتمسّين عينيّ اللامعتينِ النديّتيْنِ وتسمّينهما كرتين، تذكّري أنني مثلكَ كنتُ ألبسُ نظّارتيْنِ تعينانِ عينيَّ على قراءةِ الشعرِ، تذكّري أنّ على هذه الجمجمة شعراً متموجاً استرسل كيفما اتفق، مرّت عليه طفلاً أصابع إحدى الأمهات، ومرّت أنامل إحداهنَّ عليه رجلاً، وحين تفحصين أسناني لتعرفي من انا؟
أستعرفينَ أيّ حلمةٍ عضّتْها، ربما تشبه حلمتكِ في الاسمِ على الأقلّ، حاولي أن تصغي لآهةٍ أنثوية ملأت تجويف الأذنِ والأسِرَّة تخلع شراشفها عنها… ثمّةَ من احتضنتْ عظامي، وجمجمتي،… تماماً كما تحتضنينها الآن))..
* منذ ثلاثة أعوام عملت كمترجمٍ في ورشةٍ تدريبيّة مع فريقٍ أرجنتينيّ مختصّ في الكشفِ عن المقابر الجماعيّة، ومما ذُكِر الورشة أن بعض الجثث تمّ تحديد هويّة أصحابها من مقارنة شكل أسنانهم في صورٍ يبدون ضاحكين فيها مع أسنان الهيكل العظمي المكتشف، ومن ثم القيام بفحص الدي إن آ المُكلِف على الجثة للتأكد، وكانت المُحاضِرة امرأةً ناعمة ترتدي نظارتين. بين رصانة العلم، وضحكتي وأنوثتها وُلد هذا النص.
** الْهَامَةُ : طائرٌ يزعم العرب أَنه يخرج من هامة القتيل ويقول: اسقُوني اسقُوني، حتَّى يُؤخذَ بثأْره.
كاتب ومترجم سوري ـ اسطنبول | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية