الرئيسية » رصاص حي » حمص بلا نكات !

حمص بلا نكات !

يحنّ سكان حمص، إلى الغوطة والدبلان وحلاوة الجبن وسندويش (كريش) ومخللات (الأبرش). أنا أحنّ إلى سوق (الجاج) وبالتحديد إلى حاويات القمامة فيه التي كانت تلقى فيها فضلات تنظيف الدجاج وبقايا الجزارين.

كان السوق لمن يذكره، من أقذر أسواق حمص. وكان ملاصقاً لبائعي الكاسيت والضجيج المرعب الذي يملأ الهواء.

أحنّ إلى السوق الزنخة لأن رائحة الحياة الحقيقية كانت فيها. لأنّ حمص كانت تتجلى كزوجة صالحة لأحشاء الدجاج والفضلات الأخلاقية التي كنا نتزين بها. حمص في السوق، حقيقيةٌ تماماً وقبيحة تماماً وجميلة تماماً.

كنت أقف في إحدى الزوايا أنظر إلى الحشود الشعبية وقد وضعت حياتها في كيس التسوق الأسود. وأتخيلها تخرج من أقفاص الدجاج لتعود إلى أقفاص الدجاج. كانت بلا شك حياةحمص بسيطة مالحة تتعرّق على الأجساد البدينة وتنفث في الكون روائح البساطة ممتزجة بالشجاعة على المزيد من السقوط في هوة الاستهلاك. فبينما كان التجار في كل مكان من السوق، يتفننون في الاحتيال على الريفيين القادمين إلى المدينة.

كانت الساعة القديمة خالية من شرطي مرور واحد ينظم اندفاع المرور إلى شرايين المدينة المتكلسة. كانت روح حمص مريضة جداً وكنا جميعاً متورطين في مرضها بشكل من الأشكال. وما حدث من خراب في سنوات الحرب هو امتداد للخراب الذي كان يطلق جذوره في أعماقنا. كنا نبخّ العطور تحت آباطنا. نتزوج وننجب ونعمل ونذهب للزيارات والاجتماع في المقاهي وقد أسدلنا على العيون العصابة السوداء.

كان الخراب شاسعاً وعميقاُ وكانت أصابعنا تلقي المكسرات لطيوره الأليفة. لم نستطع أن نقول للتجار: كفاكم غشاً. ولا للمهندس: لا نريد حديد تسليحك المهرب.ولا للاستشاري: كفاك تزويراً للتقارير الهندسية. ولا لشرطي المرور: كفاك إثراء من الرشاوى السريعة. ولا لموظف البلدية: لن أخالف ولن أدفع ثمن ذلك لك. ولا لبائع الخضار والفواكه: كفاك تلاعباً بالأسعار. ولا للمطاعم: لا تتلاعبوا بالفواتير. ولا للموظف: اذهب وداوم ساعاتك المخصصة ولا تهرب. ولا للمسؤول: انزلْ إلى الشارع، ولا لأصحاب المهن: كفاكم كسلا وكذباً وتسويفاً. ولا للصيدلي ولا اللحام، ولا لمعلم المدرسة ولا لمطهر الأولاد، ولا لتاجر الأقمشة ولا للخياط، كفاكم استغلالا وانحطاطاً أخلاقياً.

كان كل شيء يسير بنعومة وسلاسة، الآذان في المساجد والأجراس في الكنائس. الأخبار التلفزيونية بالتوقيت المحدد، الأخبار الرائعة والمباريات الرياضية. الأمسيات الشعرية الجميلة والتصفيق لأشباه الشعراء وأشباه المثقفين وصنع الأصنام لهم. الندوات الثقافية المستعجلة، التصفيق للزائف وخنق الحقيقي. المشاوير المسائية، تناول الأيس كريم والموالح والنميمة. حفلات المخدرات السرية، التحالفات لاقتسام المدينة.

غضضنا الطرف كمؤمنين عن ديدان المقابر وهي تهاجم المدينة! لم نرغب أن نرى زرق طير واحد لا يتفق مع المشهد العام.

كانت ثمة فؤؤوس تحفر القبور. وكانت هناك مهرجانات للموت تستعد للانطلاق. صنعنا بريداً الكترونياً، وفرحنا بالجوالات المستوردة، وتعامينا عن سكان مدينة يعيشون في العشوائيات ويموتون جوعاً. ورضينا ببلاهة أن نكون ابن المدينة الشاطر الذي يقف على رصيف العمال الموسميين ليجادل فقيراً في سعر يوم العمل بينما يدفع أجرة ثلاثين يوم عمل رشوة فساد. ورضينا بعدم إرسال الفتيات المصونات إلى الجامعات واستبسلت الشريحة الاجتماعية الاوسع انتشارا في الترويج الطائفي الوهمي واستثمار الندم والحقد والا نكفاء على الذات.

لقد هدمت مدينتي، ضاعت طفولتي وذكرياتي وضاع حاضري، وخسرت أهلي وأصدقائي. لكنني لن أحن كما ينبغي فأشتاق إلى الحميدية وباب تدمر. لأنني أعرف أنني مسؤول بشكل ما عن دمار مدينتي. وأعرف أن الأبنية ستعلو من جديد وتعود الشوارع جميلة من جديد فنستطيع من جديد كتابة المنشورات الأنيقة وتبادل اللحظات السعيدة. لكن كيف نعيد بناء الروح السوري الضائع؟ وما هي البدائل الحضارية لثقافة استهلاكية كنا مروجيها وضحاياها معاً وكيف نبني وطناً لا يعترف بالأصوليات . كيف نمتلك الجرأة على الإصلاح الفردي والجماعي؟ كيف نقاوم التدين الفردي وثقافة التحليل والتحريم ونبحث عن تدين جماعي يرسخ القيم الأخلاقية المجتمعية ويحتفل بالثقافة المعاصرة في مؤسسات وطنٍ لا قبله ولا بعده؟

كيف يمكننا إنشاء المدارس والمشافي والجامعات وتحرير العقل من سطوة المقدس بكافة أنواعه؟

كيف نستطيع التحول إلى منتجين حقيقيين والكف عن استهلاك الإنسانية ذاتها واستجداء العالم المعاصر الذي يقدم السلاح بيد والدواء بيد أخرى؟ كيف يمكننا الاحتفال بالعلوم الإنسانية كافة، بالفلسفة والأدب والفن والعلوم الاقتصادية والسياسية لنصبح قادرين على صياغة وممارسة مفاهيم أساسية كالديمقراطية والحرية فلا نكتفي بترديدها كالببغاوات. هناك الكثير من العمل للجميع. ما أقل المتأهبين للعمل وما أكثر الحدّائين أصحاب النوستالجيات المريضة الذين يريدون حمص كما كانت بخرابها الروحي وبنيانها الشاهق. والبلاهة مستمرة في الترويج لمعجزات حمص السبع، بينما تختلط عظامها المنخورة بعظام مئات الآلاف من السوريين القتلى.

شاعر سوري ـ هولندا | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. حسان الجودي

د. حسان الجودي
شاعر وكاتب سوري، حاصل على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق, ودكتوراه في الهندسة المدنية من جامعات بولونيا. عمل مدرساً في قسم الهندسة المائية، بكلية الهندسة المدنية - جامعة البعث. حاصل على جائزة سعاد الصباح للإبداع الشعري عام 1994 عن مجموعته مرايا الغدير.

شاهد أيضاً

هل زعزعت وسائل التواصل مكانة الكتاب المقروء أم عززتها؟

صارت التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل، تيك توك، يوتيوب، فيس بوك وغيرها مصدرا رئيسيا للمعلومات والأخبار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *