والحال كما نراه ونلمس، كتلاً سكانية، لا يفيد أو يصح معها تدخل علماء الاجتماع، وهم بالأساس مفقودين، إذ لا مهنة أو حرفة تجعل لحضورهم معنى، كتل سكانية تلجأ إلى التاريخ كي تحيك منه خيمة تظلل المجموع، خيمة من نوايا مسبقة تستبد بالمعرفة وتلوي عنقها حتى تصير مناسبة لحذاء الإيديولوجيات “المتخانقة” على حقيقة مائعة، لم يبدأ أو ينتهي البحث فيها أو حولها بعد، “حقيقة” تتناسل أفقياً موضوعات ومسائل وقضايا، لا يتمكن من مقاربتها إلا العقل الباحث المجرب الذي لا يتجاوز خطأه بل يعيد شغله وبحثه إلى نقطة الصفر إذا أقتضى الأمر، العقل البارد الجريء المحايد الذي لا يتردد في إعلان معلوماته ولا يخفيها أو يؤولها عاطفياً أو عنصرياً، أو يستنسبها لهوى أو مصلحة تكتيكية تطحنها الاستراتيجيات المعرفية بالوقائع والأدلة بما يحول خيمة التاريخ الآنفة إلى مزق من مهازل من معلومات تكذب بعضها بعضاً، ولا تصلح لجدل معرفي ينتج عنه قوام قابل للتعريف أو المقارنة.
ماذا، والحال كما نرى ونلمس، وفي حال اهتمامنا بالموضوع، أن نكتشف أن التاريخ يحتاج إلى تدقيق ومقاطعة ومقارنة بين أحداثه، وما ينتج عن هذه العمليات المعرفية إذا حصلت تحت ظلال العقل ومنتجات المعرفة وتكنولوجياتها؟
ماذا يحصل لو عرضنا نصوص التاريخ أو التراث على تكنولوجية (الستايلوجي) وهو علم مقارنة النصوص بغية اكتشاف كاتبيها أو نفي هذه الصفة عنهم؟ أو ماذا لو لجأنا إلى إعادة كتابة التاريخ بطرق معرفية تستخدم العلم وتطبيقاته التكنولوجية؟ هل سيبقى التاريخ الذي نعرفه هو التاريخ الذي يصنع تلك الخيمة الجامعة المانعة؟
من غير الثابت أو الواضح بأن التاريخ يستطيع صناعة تجمعاً بشرياً مجدياً أو يتسبب به، فكيف بمجتمع يقوم على وحدة المصالح؟!. فما سبب كل هذا الإتكاء عليه وهو الذي لم ينجح في أن يكون شاهداً على وحدة المصالح فلأية مهمة يمكن توظيفه؟
لقد أثبت تاريخنا (في المئة سنة الأخيرة على الأقل) أنه ينجح تماماً في إثارة الفرقة والتناحر والإنقسام، كما أثبت وخلال الثلاثين سنة الأخيرة أنه مسوق ناجح لقيم العنصرية والتكاره والتذابح، فهل علينا تصديق هكذا تاريخ الذي لم يتعرض إلى أي نوع من أنواع المقاربة المعرفية إلا فيما ندر (طه حسين وكمال الصليبي كأمثلة) وظهرت نتائج صادمة عن تلك المقاربة ولم يتابعها أحد وسوف تدفن بحكم السطوة المقدسة لتاريخ أرتجل مُتكأً على شفاهيات الميديا القديمة.
والحال كما نرى ونلمس، إن الأمر بحاجة إلى إعادة كتابة تاريخنا بالاعتماد على التكنولوجيات الحديثة من تفكير ومناهج بحث وأدوات تكنولوجية، ولكن هل من فائدة ترجى؟ طبعاً إذا تجرأت جهة ما وتنطحت للموضوع؟. من غير المرجح أن تكون هناك فائدة ترجى لهذه الإعادة، فالتاريخ حتى لو كان صحيحاً “مئة في المئة” لا يصلح لبناء مجتمع حديث فإّذا أضفنا إلى هذا السبب الأساسي، الإصرار على عدم التعلم من الأخطاء المرتكبة، والتي تؤول كما في العادة باستخدام الذرائع والمبررات لتصبح مقبولة عاطفياً وانحيازياً، فإننا سوف نحصل على الذرائعية كفلسفة وجود، بمعنى أنه يمكن تخريب الحياة نفسها طالما وجدت الذرائع لذلك، والذرائعية ثقافة همجية تتسبب بالسلوك الاعتدائي الغزووي (والاستعمار “غربي أو شرقي” هو أحد الأمثلة فقط) حيث تبدو الذرائع على الرغم من تفاهتها كجزء من الايديولوجيا لا يحق لأحد الامتناع عن تصديقها لأنها تهدم الإيديولوجيا برمتها “وتضيع الأمة”!!!!!!!.
التاريخ نفسه ليس دليلاً على صحته، إذا لم يقرن بالدلائل العقلية المقنعة، والإصرار على توظيف التاريخ بمرتبة منتج للهوية هو بمثابة وضع العربة أمام الحصان أو بشكل أدق هو دهس العربة للحصان، فعملية كهذه لا بد أن ينتج عنها أضرار أو حتى كوارث، وإعادة كتابة التاريخ هو عملية لا تضمن عدم وقوع الأضرار ولكنها تخفف من احتمالات وقوعها، عبر محاصرة الذرائعية كثقافة تبرر الشر، وعدم وجود الدليل على صحة التاريخ نابع من من التنبلة المعرفية التي تسمى بالمجاز تخلفا (أو الخوف من هشاشة التاريخ نفسه)، حيث يبدو المتخلفون ينتظرون من يعيد كتابة تاريخهم لهم كي يتخذوا من ذلك ذريعة لقتالهم، حيث يقبعون بين ناري الذرائعية المحلية وذرائعية الغرباء!!! فمن يجرؤ محلياً على الشك بالتاريخ الموجود حتى لو كان هذا الشك ديكارتياً على طريقة حامد أبو زيد أو علي عبد الرازق أو شبلي الشميل أو محمد أركون أو محمد شحرور وكمال الصليبي وطه حسين؟
ليصبح موضوع الانتظار في ظلال العصر الحالي كالتالي، إذا كنتم لا تريدون دراسة تاريخكم دراسة معرفية عقلانية نفهم عليها ونتفاهم معها، فلتتركونا ندرس تاريخكم ونحكّم به المعايير المعرفية التي نريد، فالعلم بالتاريخ ليس حكراً على “أصحاب” هذا التاريخ، والحكم الأخلاقي عليه لا يحتكره من يدعي أن تاريخه ملكاً خاصاً له وهو أولى بقراءته كيف يشأ (تاريخي وأنا حر فيه أغسله وأكويه …مثلاً)، فالعولمة أزالت الحدود بين التواريخ وأصبحت الشعوب متشاركة به بحكم المعرفة والمصالح الناتجة عنها وليس بحكم مجرياته (مثل تشارك العرب والبيزنطيين في حروب “الفتح” وكذلك إقليم أندلثيا في اسبانيا، وكلها أضحت قديمة ومهترئة)، وبالعودة إلى صحة التاريخ من خطله، تبدو الحاجة إلى إعادة إثباته قبل اللجوء إلى كتابته بمنهجية العلوم التاريخية، حتى لو كانت بعض النتائج هو تمزق الخيمة الجامعة واندثارها، فمن غير المقبول هذه الأيام تبني معرفة هي ضد المعرفة وعدوة لها وتقاتلها بناء على الحفاظ على تاريخ موظف في خدمة الأيديولوجيا.
ربما يقول قائل، في حال تم تبني إعادة كتابة المنطقة أو الأقاليم المشكلة لها، أنه سوف نرى الهوايل، وأن التاريخ المتداول سوف يتهاوى على رؤوس الشعوب، وهو ما يشي بأن هذا التاريخ (بالإضافة إلى هشاشته المعرفية) ليس أكثر من إبرة مخدر تعيش على أوهامها شعوب هذه الأقاليم، ولكن ماذا لو تم اكتشاف أن بعض (أو الكثير) من شخصيات هذا التاريخ المحورية لم تكن موجودة (وهذا وارد تماماً) أو لا يوجد دليل علمي واحد على وجودها، أو هي أصغر أو أكبر شأناً مما روي في الطبقات؟
ماذا لو كانت الأحداث والحوادث غير متطابقة مع الزمن والجغرافيا؟ وماذا لو ربط التاريخ بالبيئات المحلية له من مناخ ونشاط إنتاجي ومأكل وملبس ومسكن إلخ؟. عندها لن يتحول قارىء التاريخ ولا حافظه إلى عالم جليل، بل الى مصدر من مصادر ثقافة الجهالة، لا تزحزحه شهرته عن هذه المكانة قيد أنملة.
والحال كما نراه ونلمس، تبدو إعادة كتابة التاريخ (تاريخنا) ضرورة حياتية، ليس لنعرف من نحن بناء على من كنا، بل لنفهم كيف نحن، ومن نريد أن نكون. ولأن تاريخاً مروياً بهذا الكم من التناقض والشفاهية لا يمكن الإبقاء عليه على حاله وإلا تهاوى هيكله ليدفن المعرفة، وعليه فإن ضرورة المعرفة كإنجاز (وليس كحلم وتمنيات) يؤدي إلى استمرارنا، إنها محاولة لوضع الحصان أمام العربة، مع العلم أن هذه الخطوة الضرورية ليست إلا واحدة من الخطوات التي من الواجب مصارحة أنفسنا بها وباستحقاقاتها، إذا ما قررنا البقاء على قيد هذا العالم الدنيا، أو ما يسمى بالمجاز الكرة الأرضية.
مجلة قلم رصاص الثقافية