الرئيسية » رصاصة الرحمة » فن النكران

فن النكران

يرفض الدكتور جوزيف مسعد (مقابلة في صحيفة العربي الجديد) متلازمة، تقدم / تخلف، الثقافية، للنظر في مأزق الشعوب العربية و”دولها” بعلاقتها مع مشكلتي الشبع والمنعة التي لازمتها منذ ولادتها في حاضنتي عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة العتيدتان. ولا يرى أنه من الصحيح معرفياً النظر أو التعامل مع الموضوع كمشكلة ثقافية في أصلها وفروعها، حيث يبدو الموضوع عنده كمشكلة حقوقية تقتضي بالاعتراف بالبنية الثقافية مهما بدت أو كانت فعلاً متخلفة كحق من حقوق الأنسان، خالطاً بين الثقافة والإنتاج الثقافي تاريخانياً، مزيلاً ذلك التحقيب التاريخي نتاج الشبع والمنعة، بحيث نبدو أننا مكلفون باستعادة المجد التليد للمنتجات “الثقافية” وحمايته كحق من حقوق الإنسان، ليشكل البنية الأساسية للدفاع عن الوجود الفيزيائي المستباح لهذه الشعوب العربية، محملاً مسؤولية هذا العطب للمفكرين الناطقين بالعربية باتكائهم على المتلازمة الآنفة، وإهمال الاقتصاد لتفسير حال الويل الذي تعيشه هذه الشعوب”العربية” الموحدة نظرياً أو في الأحلام والأمنيات الوردية.

لا يبدو هنا أن النكران حالة غير واردة، بل تبدو حاضرة ومزينة بما حضر من الزينة والأهازيج، ليبدو الاستقطاب واضحاً في خضم تلاسن “معرفي” يعيدنا إلى العطب الثقافي المأزقي / الكارثي من خلال الحق في رؤية الثقافة الناجية والإشارة إليها وتعيينها والدعوة إلى الاحتماء بها وحمايتها، لتصير شبيهة بحق تأييد برشلونة أو ريال مدريد، للتنظير حول عدم معقولية الهزيمة وبالأحرى نكرانها، عبر التشريط.

والتشريط واحد من أساليب الاستبداد في العموم، حيث يوضع الشرط بأهمية التعاقد ( تعاقد فيصل / وايزمن مثالاً والشروط المضافة إليه بخط اليد لاحقاً)، وكذلك وكمثال أيضاً  الشرط أو الشروط التي وضعت على هزيمة 1967 كي تتحول ًلى هزيمة، أو على هزيمة محمد على كلاي أمام جو فريز في إحدى المباريات، وكان الشرط لو أعطي لكلاي بضع ثوان وأزاح فريز يده عن وجهه ولو خفف فريزر القليل من جبنه لكان كلاي قد بطحه وانتصر، وهكذا لا يعتبر كلاي مهزوماً بل منتصراً بقوة النكران، وهنا تبدو “وجهة نظر” الدكتور مسعد مشروطة، بمجموعة قفزات أمنياتية في تفسير واقع الحال أهمها إزاحة متلازمة تقدم / تخلف  المتهمة بالاستشراق والتغريب قسراً من معايير قياس الهزائم، وعدم إتهام “الثقافة “(  والمقصود هوالمنتجات الثقافية) بعدم صلاحيتها، لتبدو الحماسة والاندفاع  في الذود عن الحق بالتخلف كاختيار معرفي ( وليس شعبيا هذه المرة ) فيها الكثبر من المغمغة والمطاطية، باشتراط وضع مقاييس خاصة تناسب الخصوصية العربية في حضورها التقدمي/ التخلفي بين مجتمعات العالم المعاصر!.

هذا الاشتراط بإبعاد الثقافة أو تحجيم دورها، والالتفات إلى الاقتصاد لاكتشاف أسباب الهزيمة ومن ثم تداركها، سوف يفكك المعرفة اللازمة للنهوض، فالمعرفة الاقتصادية هي جزء من الثقافة وليس العكس، الثقافة بمعناها المولد للمجتمع المعاصر تحديداً، الذي تتفاعل عناصره التأسيسية مع بعضها بواسطة الإنتاج وهو المصلحة العليا للمجتمع (ومنه أيضا إنتاج الهوية)، وهذا ما فشل “العرب” في توليده ، أي المجتمع المعاصر المفهوم والذي يمكن التفاهم معه ضمن منظومة التنافس الأممية، حيث لا يحتاج الى أي خارج لملء فراغاته، ولا تكون حدوده غير معلنة أو مفتوحة لكل طامع، وهذا ما يشكل مصلحة استعمارية كبرى، أي ما يسمى بالمحافظة على حرية الحق بالتخلف.

مع الاعتذار من الدكتور مسعد وتطييب خاطره، ولكن ما يعلنه من أفكار “جريئة ” تفترض ” أن المجتمع العربي أو المجتمعات العربية مؤسسة وموجودة ومتوفرة في الواقع وخارج كتب الإنشاء، ولكن في الحياة الواقعية لا وجود للمجتمع المعاصر (السوسايتي) في الكيانات السياسية أو البشرية “العربية” وهناك ملايين الأمثلة للدلالة على ذلك وأهمها عدم المقدرة على إنجاز دولة معاصرة غير مشروطة، على الرغم من أن الشروط أيا كانت سوف تقوضها من اتجاهين، الأول هو عدم مطابقتها لمواصفات الدولة المجتمعية، والثاني هو الترقيع الدائم لأسباب هزائمها المعرفية التي تضعف (تخلف ) البنيان الاجتماعي إلى ما قبل المجتمع، وهنا تكمن مصيبة أو كارثة الثقافة وفعلها، التي يطلب الدكتور مسعد إعفائها من مسؤوليتها، ما يعني إعفاء السكانيات من مهمة تأسيس مجتمعاتها، تلك المجتمعات القادرة  تحديداً على إفراز دولة حديثة من لدنها، هي المجتمعات التي أسست نفسها على ثقافة المعرفة المحررة للإرادة في اختيار الثقافة التي تريد، إذ قبل تأسيس وولادة المجتمع لا يمكن لأي خيار أن يقع طالما ليس هناك مجتمع.

بالطبع هناك نوعين من الثقافة تولدهما العلاقة بالمعلومات والعلم، ثقافة الوضوح والتحديد ومعرفة استحقاقات الارتقاء وهي ثقافة يتم اختيارها بالمقارنة مع تحديات الإنتاج، وثقافة ضابية عصابية تستجيب لاستحقاقات المظلومية بالشكوى والنقيق المنتجين للعنف غير المثمر، وتشترك وتتقاسم هاتين الثقافتين بالاستفادة من استخدام التكنولوجيات المعاصرة، ولكن كل واحدة في اتجاه، ولعل التوجه إلى الاهتمام بالاقتصاد كتكنولوجية وبواسطة التكنولوجية المعاصرة (حسب مقترحات الدكتور مسعد) ينتمي إلى النوع الثاني من الثقافة حيث التركيز على حق الاختيار قبل النجاح في تأسيس المجتمع، حيث يصبح للثقافة طابع ثأري تأنيبي بدلاً عن طابعها الإنتاجي، حيث توضع عربة الشبع والمنعة أمام الحصان، وهذا غير مهم في هذا النوع من الثقافة طالما وجدت العربة ووجد الحصان، إذ يكفي وجود ظالم ومظلوم ليتم إعلان الوعي بالعملية الاستعمارية برمتها من الاستشراق وحتى إنهيار السكانيات على أصحابها.

نعم المشكلة ثقافية بعمقها ومظاهرها، فخارج الثقافة المجتمعية ( حسب مفاهيم المجتمع الدنيوي المعاصر) لا يوجد إنسان بالمعنى الحقوقي المعاصر للكلمة ( شرعة حقوق الإنسان معيارا) وإنما مخلوقات للاستباحة لأن طاقاتها الإنتاجية مخصية عن إنتاج أسباب القوة الحامية للشبع والمنعة …وللاقتصاد أيضاً إذ لا اقتصاد دون إنتاج …وكذلك لا هوية.

يبدو الفشل في تأسيس المجتمع كنتيجة لحراكات الشعوب “العربية” الثقافية على ما يعتري هذه الحراكات من فواحش معرفية، جعل من نكران دور الثقافة هو إزاحة لها وارتياح من عدم وجودها، ولكن الثقافة بنوعيها  المتصارعين، المعرفي والجهالي، هي المحرك الأساس للسلوك البشري الفردي والجماعي، وإذا كانت نتائجها التي نعيش في أيامنا الحالية، فهذا ناتج عن نوع الثقافة المعتمدة في الأداء ( السلوك)الاجتماعي، الذي تتراصف مكوناته الاقتصادية والسياسية والأدبية والعلمية وإلخ… من أجل إعلان مقدرتها على صون الشبع والمنعة كهوية مفهومة من قبل المجتمعات المتنافسة على البقاء.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

التفاهة المقنعة

للناظر إلى برامج المنوعات التلفزيونية العربية (الأنترتيمنت)، حق إبداء الرأي فيها، ومن أهم مظاهر هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *