مازن كم الماز |
حدث ذلك من سنين .. كان ذلك في دمشق، وصلت مبكرا على موعدي فقررت الذهاب إلى الحديقة العامة المجاورة لأضيع وقتي هناك .. في صيف دمشق القائظ أحيانا تكون تلك الحدائق أفضل مكان لقضاء الظهيرة .. جلست على مقعد عند الباب، تحت شجرة كبيرة .. ملأت صدري بما اعتقدت أنه الصعداء، أو ما يسمونه بالهواء العليل، تلك الرطوبة الممتزجة برائحة الأعشاب وأوراق الأشجار..
اكتشفت على مقربة مني فتاة وفتى يرتديان زي المدرسة الثانوية .. ابتسمت، كم هو رائع أن تحب في هذا العمر، ثم تركت نفسي لذكرياتي كي تأخذني إلى أيام خلت .. لكني استجمعت قواي واستعدت وعيي إلى اللحظة الراهنة … أفقت من أفكاري ونظرت إلى جاريي الشابين، كانت الفتاة تبكي، تمسك يده، تطبق عليها بقوة بكلتا يديها، وكان يجلس متململا، يحاول من وقت للآخر أن يحرر يديه ..
قالت له أنه لم يعد يحبها لكنها ما زالت تعبده .. قال لها أنها ستنساه قريبا .. استمرت بالبكاء، قالت أنها لن تنساه أبدا .. شعرت مرة أخرى بالحزن .. فكرت للحظة أنه على حق .. فقط لو تعرفين يا صغيرتي .. ستنسيه فعلا، ربما بعد يوم أو أسبوع أو سنة أو عشرة .. سيكون هناك آخرون بلا شك، والكثير من كلمات الحب الجديدة، والقبلات، واكتشاف جسدك وأجساد عشاقك، ثم تكر السبحة، ويأتي الزواج والأولاد، وعادة يحدث هذا مع عابر سبيل لا نعرفه حقا .. ستنسيه وتنسي من سيأتي بعده، وسط إيقاع الزمن الرتيب الذي يستمر دون توقف، دون أن ينتظرنا حتى لثانية .. انتظري قليلا فقط يا صغيرتي ..
كان واضحا في هذه اللحظة أن عالمها كله ينحصر في هذا الفتى الوسيم الذي يحاول انتزاع نفسه بعيدا عنها وتحاول هي أن تبقيه قربها أطول فترة ممكنة، ربما لآخر مرة .. أطرقت قليلا .. قادتني ذكرياتي إلى أماكن أخرى ودع فيه العشاق بعضهم، تلك اللمسات الأخيرة، النظرات الأخيرة، القبلات الأخيرة، الجنس الأخير، والدموع التي لا تنتهي .. استغربت أني شعرت بشيء من الألم، كنت قد اعتقدت أني قد شفيت من ذكرياتي، منها ومنهن .. زاد حزني واقتربت من درجة الاكتئاب ..
حاولت أن أستيقظ، لا أريد أن أحزن، لكن ذكرياتي كانت قد استبدت بي وأصبحت عاجزا عن مقاومتها، كأني أسوي حسابي الأخير معها، أحزن ربما للمرة الأخيرة، كي أنسى .. لكن، هل سأنسى؟ .. قررت أن أقف، أن أبتعد عنهما .. شاهدته يقف، بقيت هي جالسة، اشتد بكاؤها .. لأقاوم حزني كان علي أن أبتعد، أن أتجاهل دموعها … أتمشى بين المقاعد والأشجار، أحاول البحث عن شيء “يستحق” أن أراه، عن فتى وفتاة يتبادلان كلمات الحب بفرح، عن صوت قبلة أو ضحكة ما يتسلل من بين الأشجار، لكني لا أجد سوى المقاعد الخاوية .. أستعيد نفسي مرة أخرى، أنظر في الساعة، لم يقترب الموعد بعد .. تبا! ..
أنظر باتجاه الفتى والفتاة، لقد وقفا أخيرا .. بعد جهد بدأ يبتعد عنها، تسمرت مكانها لبعض الوقت .. رفعت عيني إلى السماء فشاهدت بعض الطيور وهي تطير بملل أو بكسل أو بحزن، ربما كان ذلك بسبب الحر، ربما كنت أتوهم، ربما كانت سعيدة .. فكرت أني أكبر، وأني أصبحت لذلك شخصا كئيبا .. أشعر فجأة برغبة في أن أهرب بعيدا، أن أغادر هذا المكان فورا … تتسارع خطواتي بشكل آلي، وتبحث عيناي بقلق عن مخرج .. أجده أخيرا .. أندفع نحوه، هذا هو الشارع، سأهدأ قريبا .. قريبا سيعود كل شيء كما كان .. لعينة أنت أيتها الذكريات، كم أود أن تموتي، أن تختفي، إلى الأبد .. أبدأ بالمشي بهدوء أكثر، أجتاز الشارع .. فجأة أسمع صوتا مرتفعا، وآهة قوية .. نظرت جهة الصوت، رأيت سيارة واقفة أمام جسد صغير ..
يركض الناس نحو السيارة وذلك الجسد، الذي كان ممددا على اسفلت الشارع بلا حراك .. أتعرف أخيرا على صاحبته، كنت قد حفظت تفاصيله في الدقائق الماضية .. ماذا فعلت؟ لماذا يا ابنتي؟ أيتها الغبية .. كنت ستنسيه بكل تأكيد .. هل أذهب إليها .. هل ستنجو .. هل أساعدهم في إنقاذها .. لقد تأخرت كثيرا .. كثيرا .. أنظر إليهم وهم يحشرونها في سيارة أخرى، ثم تختفي عن ناظري .. آه يا فتاتي، أقسم أنك كنت ستنسيه، كما نسيت أنا، كما نسينا جميعا .. ثم أحاول أن أسير …
المثقف | موقع قلم رصاص الثقافي