لفتتني كلمة “الثأر” وأنا أقرأ مقالاً عن تاريخ حركة الوحدويين العرب (المقال للأستاذ صقر أبو فخر تقريظاً لكتاب مذكرات الأستاذ صلاح صلاح أحد المشاركين في التأسيس)، وهي حركة تأسست على غاية تحرير فلسطين وتشعبت مشاركة في تأسيس أكثر من تنظيم فلسطيني وعربي يسعى إلى نفس الغاية، وفيما يذكر الأستاذ أبو فخر ناقلاً كلام نصيحة أم صلاح صلاح إلى ابنها “ما تعصبم، ما تنفعلم، ما تصيحم…فلسطين هاذ هي، إذا كنتم رجال رجعوها”.
لكن الوعي الفكري لهذه المجموعات ينصب على فكرة الثأر، فالنشرة الأولى لهذه الحركة كانت باسم الثأر عام 1952 تلتها منظمة ( شباب الثأر) و (وحدات شباب الثأر)، حيث بدا واضحاً ذلك التكييف الحاصل بين رؤية والدة الأستاذ صلاح صلاح تلك الرؤية الواقعية الواضحة في تلك الأيام على الرغم من بساطتها، وبين رؤية هؤلاء الشباب المطلعين الواعين!!! الذين اختطوا طريقاً لا تصل إلى أي مكان من خلال البحش في الماضي للوصول إلى ترياق الحل، وجوهر الذهنية التي تقود إلى إحقاق الحق بسلوك الطريق المؤدية إلى الأخذ بالثأر.
علنا نتكلم الآن عن الذهنية التي تؤسس لهكذا حراكات (طبعا لا نريد الغوص في شرح الذهنية القبلية)، ففكرة الثأر على الرغم من كونها فكرة جزافية لا تذهب بحاملها إلى أي مكان يتصل بالغاية من هكذا نشاطات، ولكنها جزء تأسيسي من ثقافة هؤلاء الناشطون المتحلون “بالوعي”، حيث تنتهي عملية الثأر بابتراد القلب، بينما الغاية تبقى منتظرة في مكان آخر، ويستمر التثاؤر معترفاً بالطرفين الظالم والمظلوم، المغتصب والمغتصب، بآلية توازن الرعب الهمجية، وتبقى المسألة الأساسية أي إعادة الحق إلى نصابه من دون حل.
لعلي سقت هذا المثال كمحاولة لمعرفة أيهما يسبق الآخر؟ التفكير؟ أم العنف؟ ربما لرصد الفارق بين عقليات تعتمد هذه أو تلك أثناء عمليات تحقيق مصالحها، حيث تبدو المصلحة هي المعيار المجدي لقياس جدوى العنف كعملية منحطة يلجأ اليها الإنسان كحل أخير، أو وحيد (بمعنى أنه لم يتبق غيره)، وفي مثالنا الآنف، لا يبدو العنف مسألة مفكرا فيها، لتبدو الغاية منه مستغرقة بقضية الثأر كتفصيل لتحصيل الحاصل، لتصبح عقلية الثأرمعممة ومسيطرة على كامل النشاط الاجتماعي من سياسة واقتصاد وحقوق وإنتاج ثقافي وتقاليد وأعراف، كوسيلة وحيدة لإحقاق الحق، في افتراق عن ركب الحياة والولوغ في فيافي القبائلية والطائفية والسلطانية وإلخ من تمظهرات الذهنية المؤدية إلى السلوك. إذ ظهر ومن خلال التطبيقات الثأرية المعاصرة أن العنف يسبق التفكير، ويكون مضمراً قبل الشروع به، ليتحول العنف الى غاية بحد ذاته، منفصلاً عن المصالح، ليحل محلها شعارات رنانة تبرره وتبرر التضحيات من أجله.
والثأر عملية استردادية بشعة، إذ تفترض الحصول على شيء مقابل الشيء المفقود والذي لن يعود، وفي هذا تكمن كارثية الثأر في موضوع مثل فلسطين فالثأر يؤكد لنا أن فلسطين لن تعود وعلينا أن نثأر لذلك، بينما الغاية من كل هذا التأسيس للحركة هو استعادة فلسطين، ليصبح الثأر ( ذهنيته تحديدا ) بوصلة يتبعها اليائسون سلفا.
والثأر أيضاً عملية رمزية، (طقسية، شعائرية)،لا ترمي لأكثر من تهدئة الخوف من الهشاشة عبر إشهار العنف وإعلانه والتهديد به، دون السؤال عن جدواه في القضية الموظف لأجلها، فتتراكم البطولات وتتضخم، وتشح الانتصارات وتتقلص، فالثأر لا يمكن توظيفه في عملية متكاملة ذات غاية واضحة، إلا بعد تحقيقها وبمعنى محدد هو الحفاظ على توازن الرعب لضمان عدم تكرار الاعتداء أو الاغتصاب.
المصيبة في ذهنية الثأر أنها تعتبر نفسها قادرة على إصلاح الخلل وإعادة العدالة إلى نصابها من دون التحقق من أسباب الخلل، فقتيلها هو شهيد بغض النظر إذا كان معتدياً أو ظالماً، مغتصباً أم بواقاً، غازياً أم مجالداً، بادئاً أم مستغلاً لظرف، كله سيان، لذلك تبدو حكايا الثأر كمسلسلات لا تنتهي، أو ككرة ثلج تستمر بالتضخم، لأن القصاص في مكان والخلل والعدالة في مكان آخر، لتبدو عدالة الثأر مهما كانت مسببة، تبدو كحكم مستلف يصدر قبل انعقاد أية محكمة، مهما كانت درجة تحضرها، ويرد عليها بحكم مستلف مماثل ومقابل، وعندها يصبح الخلل عادة وتقليد وعرف وتراث ومن ثم سياسة وحراكات “ثورية”، تلعب البينغ بونغ بالخراب والدماء.
جزافية الثأر تبدأ من معرفة ذهنيته الأكيدة بأن كليب لن يعود حياً ولكنها توغل في الانتقام على حساب الحياة أولا، وعلى حساب استرداد الحق ثانيا، إذ يكتفي الثأر بالحصول على مقابل يثلج له صدر أصحابه تاركا حقهم ( إذا كان لهم حق) في انتظار الرد الثأري المقابل، بحيث يتوارى الحق في البعيد المؤجل إلى حين ميسرة. ومع تراكم عمليات الثأر وتشعبها يصبح الحق عبارة عن تفاصيل متداولة غارقة في لجج التطورات.
والثأر ليس مقابلاً للتسامح، لأن التسامح نفسه كما الثأر هو تفريط بميزان العدالة، لأنهما وببساطة يرفضان الاعتراف بالقوانين والامتثال لها، أو لا يملكان أية فكرة عن القوانين الناظمة للعيش الإنساني، حيث يحل العنف والإلغاء أية مشكلة مؤقتاً لتعاود الانفجار لاحقاً على نفس المنوال دون تطور في مسألة استعادة الحق الأصلي المسبب في المشكلة.
لا يرى الآخذ بالثأر، أنه يقتص من آخذ آخر بالثأر ولا يعترف بحقه المتساوي بالحصول على ما يشفي غليله ويثلج صدره أو يرفع رأسه بين قومه، كما أنه لا يرى تأثير الثأر حين يكون بين قومه أنفسهم (قبيلته أو شعبه أو منظمته) ما يودي إلى التجزوء والإنقسام والعداوة، حيث لا تنحصر نتائج ذهنية الثأر بالمعتدي الغريب، بل “بالمعتدي” القريب أيضاً، وهذا أمر لا يذهب بالحق الأصلي بعيداً فقط، وإنما يؤسس لخلاف حول الحق الأصلي ذاته، الذي تم اختصاره ليصبح مجرد ثأر أو انتقام من غريب اغتصب حقاً يعيق استرداده الأقرباء، ما يستوجب لإلغئهم ثأراً.
كيفما نظرنا إلى الثأر، فإنه لا يشكل فعلاً يراد به استرداد حق، ولا إقامة ميزان العدالة، ولا تحقيق المساواة، لإنه ينفي مبدأ الضحية المعايرة بمقاييس حقوقية مناسبة، ويحول المظلومية إلى اعتداء، لأن المظلومية بطبيعتها بائدة بالتقادم وإحياؤها هو استجلاب أهوس للعنف، فالثأر لا يؤسس لعدالة أو إنصاف بل إلى منظومة سلوكية تكرم الانتحار.
مجلة قلم رصاص الثقافية