د. حسن مدن |
بعيد انتخابه بقليل رئيسا للجمهورية الفرنسية تلقى فرانسوا ميتران دعوة من مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا في حينه، لزيارة لندن. هناك طلب ميتران اللقاء بعدد من مثقفي البلد، فرد عليه موظفو 10 داونينج ستريت بأنهم ربما يجدون له كُتَّابا أو مؤرخين أو فلاسفة أو باحثين، ولكن ليس مثقفين. كان هؤلاء الموظفين يعرفون أنهم يخاطبون رئيساً لبلد للثقافة فيها موقع القلب، وأن ميتران بصفته زعيماً للحزب الاشتراكي، كان يعرف عما يتحدث حين طلب اللقاء مع المثقفين الانجليز.
الجنرال ديغول، رئيس فرنسا أيضاً، لم يكن اشتراكياً مثل ميتران، ولكن حين أصرّ وزير الداخلية في عهده على اعتقال جون بول سارتر لما اعتبره دوراً رئيسياً له في تحريض طلبة الجامعات في انتفاضة 1968، ردّ عليه بشكل قاطع: فرنسا لا يمكن أن تعتقل فولتير.
في العلاقة مع الثقافة والمثقفين فإن لفرنسا تراثها الخاص الذي لا يضاهيها فيه بلد أوروبي آخر. هناك كان عصر الأنوار، وهناك نشرت مقالة زولا: «اني اتهم» دفاعاً عن المتهم البريء دريفوس، وهناك أيضاً ولد وعاش وكتب فولتير الذي شبه الجنرال ديغول سارتر به. ذلك الطراز من المثقفين لم يكونوا مجرد رجال معرفة وحسب، رغم أهمية الدور الذي اضطلعوا به في تطوير المعرفة، لكن أهمية دورهم تأتي أيضاً من حال النقاش التي أطلقوها في المجتمع حول القضايا الكبرى.
يكفي أن الفرنسيين هم أول من استخدم مفردة «المثقف»، في التعريف بالرجال والنساء المشتغلين في إنتاج المعرفة وربطها بالحياة، لكن ليس الفرنسيون وحدهم من طوّر مفهوم المثقف، مثلهم فعلت روسيا في القرن التاسع عشر، التي يعود لها الفضل في اجتراح مفردة «الانتلجسيا» كتسمية للمثقفين، وفي وقت لاحق فان التحديد والتدقيق الأعمق لمفهوم المثقف ودوره سيأتي من إيطاليا على يد المفكر والمناضل أنطونيو جرامشي.
جرامشي هو أول من صنف المثقفين إلى فئتين: المثقفون التقليديون والمثقفون العضويون، ومن الاعتقادات الخاطئة الرائجة في خطابنا الثقافي العربي تقرير أن المقصود بالمثقف العضوي هو ذاك الذي يتبنى مواقف تقدمية من قضايا الحياة والمجتمع، وأن المثقف التقليدي هو من يتبنى المواقف المحافظة.
ليس ذلك ما عناه جرامشي، فالمثقف العضوي يمكن أن يكون تقدمياً ويمكن أن يكون محافظاً وحتى رجعياً تبعاً لطبيعة إنحيازاته الاجتماعية والفكرية. حسب جرامشي فإن نموذج المثقفين التقليديين هم المدرسون والكهنة والموظفون التنفيذيون الذين يواصلون فعل الاشياء نفسها من جيل الى جيل، اما المثقفون العضويون فهم أولئك المرتبطون بصورة مباشرة بالطبقات او المشاريع التي تستخدم المثقفين لتنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والسيطرة.، لذا تجد «المنظم الرأسمالي يعين الى جانبه التقني الخبير فى الصناعة والمتخصص فى الاقتصاد السياسي، والمنظمين لثقافة جديدة ومبدعي النظام القانوني الجديد».
شجاعة المثقف النقدي لاتتجلى في مواجهة ونقد اخطاء الحكومات، فهذا من صميم واجباته، وإنما أيضاً في مواجهة أوهام الرأي العام. قال إميل زولا: «إذا سألتني: ماذا جئت تفعل في هذا العالم، أنا الفنان، سأجيبك: أنا هنا لأعيش بصوت عال»، ومثقف كبير آخر هو إدوارد سعيد قال: «تتمثل رسالة المثقف فى الحفاظ على التنبه الدائم لعدم ترك أنصاف الحقائق توجه المرء فى حياته».
لم تعد الساحة الفكرية والثقافية في العالم تُقدم الأسماء الكبرى الجامعة، الماسكة بأكثر من ناصية، كما كان عليه الحال في فرنسا مثلاً التي كانت مثل هذه الأسماء تغطي فضاءها الثقافي. يَصحّ ذلك مع جان بول سارتر وكلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو ورولان بارت واداورد سعيد، والاتجاهات الفلسفية الكبرى مثل الوجودية والبنيوية والفرويدية والماركسية. وتبدو الحال على الجبهة الشعرية مشابهة، حيث كانت أسماء مثل اراغون وبول ايلوار وفاليري وسواهم تشكل “نجوما” شعرية، فلم نعد نجد نظراء لها.
مثقف فرنسي معاصر هو باسكال بونيفاس كتب كتابا عمن دعاهم «المثقفين المزيفيين»، خصصه لمعاينة تهشم صورة المثقف لصالح صورة الخبير الاعلامي الذي يكتب في الصحافة ويتحدث على قنوات التلفزة، الذي يفتي في كل شيء تقريباً، محاصراً بالدقائق المحدودة التي تمنح له، مبرراً أو موضحاً لما حدث.
يعطي الكاتب مثلا على ذلك بالسؤال الذي وجهه إعلامي للمستشرق الكبيرمكسيم رودنسون المناصر للقضايا العربية في نهاية برنامج تلفزيوني: «أتستطيع أن تقول لنا في ثلاثين ثانية: هل الاسلام دين عدائي أم لا؟».
في السابق، يقول المؤلف، «حين كان العمالقة من أمثال سارتر ينخرطون في الجدل العام كانوا يفعلون ذلك عن طريق وضع مؤلف ملائم للسياق»، لكن مثقفي اليوم يفضلون الحضور على الشاشة على أن يقدموا إنتاجا فكرياً حقيقياً.
في التراث العربي الإسلامي كان العالم أو المفكر في الأصل رجلاً موسوعياً. إنه يجمع بين الفقه والطب والرياضيات والعلوم الفلسفة. أما اليوم فبالكاد نعثر على مثقف متبحر في حقل اختصاصه.
نقول هذا الكلام من وحي الضجيج الكبير الذي يثار حول المعلوماتية، التي تطرح بوصفها ثقافة العصر الراهن، ويكثر الكلام عن تدفق المعلومات وانسيابها كما لو كانت هذه المعلومات تخلق نمطاً جديداً من المثقف الموسوعي الذي هو على بينة من كل القضايا.
أفول زمن المثقف الموسوعي له أسباب موضوعية، تكمن في التطور المذهل في المعارف والعلوم بحيث لم يعد في طاقة عقل بشري واحد أن يستوعب كل هذه التطورات، حيث بات التخصص مطلوباً وضروريا، فحتى التخصصات الفرعية تتشظى هي الأخرى إلى فروع أصغر فأصغر، وبات كل فرع بحاجة لمن يتفوق فيه وينبغ.
ولكن الأمر الذي نحن بصدده يتصل بالرؤية الشاملة أو المنظور الفلسفي العام الذي بات الكثير من دعاة الثقافة اليوم يفتقدونه في أطروحاتهم وفي القضايا التي يتناولونها.
يتعين على المثقف الفرد أن يكون متعدداً، لا بمعنى أن يكون مختصاً في كل حقل من حقول المعرفة فذلك محال، وإنما يكون قابضاً على الخيط الذي يشد العلوم بعضها لبعض تعبيرا عن الترابط القائم بين الظواهر في الحياة نفسها وفي الطبيعة الأشمل التي تحوي كل هذه الظواهر.
هذا التعدد في ذهن المثقف الفرد يمنح رؤيته الشمول والنضج والمقدرة على إدراج التفاصيل الصغيرة في سياق عام، ثم أنها تعوده على التسامح والانفتاح على الآراء والأفكار الأخرى، وتحرره من أسر الجمود والانغلاق، وتنمي عنده ذائقة وحساسية نقدية عالية تجعله قادراً على التقاط ما هو جديد وما هو جوهري وواعد في التحولات من حوله.
العصر الراهن، عصر المعلومات كما يوصف، يدفع بالناس نحو المزيد من العزلة والتقوقع على الذات، ويأتي نموذج «المثقف» المعلوماتي المسحور بكمية ما يعرفه من بيانات في حقل بعينه ليكرس هذه الحال من العزلة والضياع، فهذا النموذج يظل عاجزاً عن رؤية مكانة المعلومة ضمن نسق أشمل، أي أنه ينبهر بالتفصيل، بالجزء، ويتجرد، بالتالي، من حساسيته تجاه القضايا العامة.
المثقف هو في النهاية فرد واحد، لكنه يمكن أن يكون متعدداً في رؤاه وفي أفكاره. وإذا كان سيئاً ألا يكون المرء متخصصاً، فالأسوأ من ذلك أن يكون متخصصاً في جانب وفارغ الذهن في الجوانب الأخرى.
على المثقف أن يتسلح بأمرين كي يجدر به أن يكون مثقفاً حقاً، أولهما الذاكرة وثانيهما الشجاعة. الذاكرة صنو الثقافة التي هي بدورها مرادفة للتاريخ، فمثال الماضي ليس دائماً مرآة خادعة. والشجاعة ضرورية للمثقف لأنه يجب دائماً على العقل أن يتحدى مكائد المادة وأحابيل المجتمع.
في هذا السياق تبدو الفلسفة والتاريخ وحدهما القادرين على تكوين هذه الذاكرة وهذه الشجاعة.
هذه الفكرة جاءت في مقدمة كتاب يحمل عنوان «المثقفون والديمقراطية»، هو عبارة عن مجموعة أوراق قدمت في ندوة علمية عقدت تحت هذا العنوان قبل نحو ثلاثة عقود في فرنسا، وقام الدكتور خليل أحمد خليل بنقلها إلى العربية. اهتمت هذه الأوراق بمناقشة قضايا مفصلية تتصل بالدور الذي يتعيّن على المثقفين الاضطلاع به في ما يوصف بأنه حقبات التوتر السياسي الاقتصادي أو الاجتماعي.
لذا يأتي الإلحاح على محورية التاريخ، أو الوعي بهذا التاريخ من بابٍ أدق لأن الإنسان في هذا العصر، والمحروم من تاريخه، صار طريدة سهلة لكل أشكال القهر، وأخذ يتخلى عن ثقافته ببطء. “إنه مستعد للبقاء أكثر مما هو قادر على الحياة”.
جريدة عُمان