إياد الخياط |
يتناول هذا البحث عملاً أدبياً نشره اسماعيل فهد اسماعيل عام 1978 عن دار العودة، بيروت، للوقوف على جنس النص هل هو قصة أم رواية؟
إشكالية التجنيس
لقد مثل تداخل الأجناس الأدبية إشكالاً بالنسبة إلى مصنفي الأدب. وقد أصبح تمييز كل جنس أدبي من غيره أمرا عسيراً لتداخلها وتوالدها من بعضها البعض. وهذا ما سبب خلطاً هائلا، أصبحت تعاني منه بعض المقاربات للأجناس الأدبية حيث تسود زئبقية مصطلحاتها وانفتاح النصوص على بعضها البعض؛ فليس ثمة أسوار منيعة أو آليات تعمل داخل الشكل الفني، تحول دون تداخل الأشكال الفنية وتمازجها. علماً أن ((العناية الكبيرة التي حظيت بها مسألة الأجناس الأدبية، تبرر الكم الهائل من الدراسات النقدية الغربية، إلى حد أنه يجوز القول بأنه ما من دراسة تخلو من وقفة عند هذه القضية، أو إثارة جانب منها)).
و((يعد الجنس الأدبي من بين المقولات الأكثر قدما في التفكير الأدبي؛ فقد لوحظ منذ وقت مبكر أن أنماطا من النصوص أو الخطابات بنيت بطريقة متميزة وذات صلة بظروف معينة في الحياة العملية بحيث تستدعي من متلقيها موقفاً محدداً، وذلك عندما تؤثر فيه بواسطة استراتيجيتها الخاصة)). فالرواية ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ من أكثر الأجناس الأدبية احتقاباً وجمعا لصفات باقي الفنون، فهي تستعمل جميع الامكانات المتاحة لدى الشاعر: استعارة ، كناية ، رمز، أسطورة، ولدى المسرحي حوار ، صراع درامي ، تصوير المشاهد، إلى جانب استفادتها من مزايا القصة القصيرة وشؤونها، كما تهضم وتستثمر عناصر متنافرة كالوثائق والمذكرات، والوقائع التاريخية، والتأملات الفلسفية، والخيال العلمي حتى لتكاد تبدو جنساً لا حدود له.
ولكي يتمكن الناقد من وضع ملامح لجنس أدبي ما، ينبغي عليه أن يقف على نموذج جدير بالدراسة لأن ((نقطة الانطلاق في دراسة تاريخ جنس معين، عبارة عن التقاط حدسي للعنصر الإجناسي، انطلاقا من أحسن النماذج تمثيلا للجنس)). لذلك يكون لاتفاق النقاد على جودة نص ما وادعاء صاحبه أثر في تحديده، والوقوف على تطور ذلك الجنس وافادته من غيره؛ فالاجناس الادبية لاتبقى ثابتة على مر التاريخ فقد((يظهر شكل جنس جديد انطلاقا من تحويرات بنيوية تتناول مجموعة أجناس بسيطة موجودة من قبل، لكي تدرجها ضمن مبدأ تنظيم أرقى)).
ويمكن ملاحظة تلك الإفادة من خلال ملاحظة امتداد وعي الروائي العربي المعاصر بضرورة تلوين نصوصه بمناخات جديدة ودفعها نحو عوالم إبداعية أخرى تدخل معها في حوارية فنية من شأنها أن تنتج نصاً حداثياً مختلفاً. لذلك نجد الرواية العربية الحديثة جنسا مختلطا من الشعرية والسيرة والمذكرات والاعترافات …وعلى الرغم من هذا التداخل إلا أن هناك من يرى أن لكل جنس موضوعات خاصة به تتطابق معها مفهومات معينة. فقد تناول خلدون الشمعة قضية الاجناس الأدبية ثم كتب بعد 7 سنوات كل من محمد الهادي الطرابلسي في كتابه (بحوث في النص الأدبي)، وعبد السلام المسدي. في كتابه (النقد والحداثة).
ويتم تعريف الرواية بأنها ((سرد خيالي نثري أو حكاية ذات طول معين .. تصور فيها شخصيات وأفعال تمثل الحياة الحقيقية للماضي أو الحاضر على شكل حبكة ذات تعقيد ما)) أما ((الخطاب الروائي بشكل عام هو بنية لغوية دالة! وهو تشكيل لغوي سردي دال، يصوغ عالماً موحداً خاصاً، تتنوع وتتعدد وتختلف في داخله اللغات والأساليب والأحداث والأشخاص والأصوات والعلاقات والأمكنة والأزمنة)).
أما القصة فهي لا تهتم بالتفاصيل وتتابع الأحداث، انما تصل الى المغزى والدلالة بسرعة ولعل هذا ما يجعل القصة أقصر من الرواية في الغالب.
و((تعد عملية بناء الشخصية في القصة أخطر عملية في بناء القصة … لأنها مرتبطة بتوثيق هيكل القصة ذاته)).
أما من حيث اللغة فـ ((ليست اللغة عاملاً سلبياً في بناء القصة بل يتوقف عليها جانب كبير من تماسك هيكل القصة وبناء الشخصيات. فالهيكل المتماسك سرعان ما يختل والبناء الحي سرعان ما يجف ويتساقط لو لم تسعفه لغة طيعة ملائمة)).
في النص
جاء نص (الحبل) في 126 صفحة من القطع المتوسط في 24 مقطعاً، قصيراً تحكي حدثاً قصيراً واحداً تتخلله استرجاعات مستدعاة من الذاكرة.
يبدأ النص بسرد حكاية رجل متزوج عقيم يخرج في الساعة العاشرة من ليلة مظلمة في نهاية شهر قمري ليسرق بيت موظفة في دائرة الموانئ، فيختبئ من الحراس الهرمين مرة ويتسلل مرة إلى أن يصل الى البيت ثم يتسلق البيت من الخارج بواسطة حبل الغسيل الذي جاء به من بيتهم، ثم يدخل ويحصل على مصوغات ذهبية ونقود كثيرة وزجاجة عطر، وقبل أن يخرج تستيقظ طفلة صغيرة تظنه أمها فتعانقه وتغفو على صدره، فيعيدها إلى سريرها ((ويضع الذهب والنقود على وسادة الطفلة، ثم أحس بأنه غبي الى حد ما، لكنه لم يتردد. خطا إلى الوراء خطوتين، ثم عقد حاجبيه كمن تذكر شيئاً مهماً. اقترب من السرير ثانية. أخذ عشرين ديناراً وتسلل خارجاً))، ثم خرج من باب البيت ليتنسم هواء الفجر المنعش مستعيداً توازنه النفسي لأنه شعر بأنه استعاد زجاجة العطر والعشرين دينار التي سرقهما منه ضابط الحدود بين العراق والكويت في وقت سابق. ولعل سبب إعادة التوازن هذه هو أن الطفلة الصغيرة تمكنت من إقناعه بان القادم أفضل وذلك عندما عانقته ظنناً منها بأنه أمها.
وقد تخلل هذا الحدث القصير كثير من الاسترجاعات، ومنها القصة الموازية له عندما كان في سن العاشرة وسرق حذوة حصان من نجار فرماها أبوه على سطح المنزل مما اضطر البطل إلى ان يتسلق سطح المنزل بواسطة حبل لكي يعيد حذوة الحصان. وقد شكلت له تلك القصة عقدة مستمرة، فقد ذكرها أكثر من مرة في أثناء استرجاعاته.
ومن الاسترجاعات، تذكره لقصيدة كتبها في هجاء عبد الكريم قاسم حيث تم سجنه لمدة أشهر ولم يخرج من السجن الا بعد أن أعلن براءته من الحزب اليساري الذي ينتمي إليه، وقد تم منعه من السفر. وقد ركز كثيراً على استرجاع هذه الحادثة، وقد شكلت له هذه البراءة عقدة غالباً ما تنتاب اليساريين عندما يعلنون براءاتهم من أحزابهم في الروايات السياسية العربية.
وكذلك استرجاع قصة هروبه إلى الكويت مع خمسة عراقيين وفلسطيني و10 ايرانيين، وعندما وصل الكويت وذهب مع الإيراني وعاش معه وعمل في حفر مجاري شوارع الكويت، سلمته الحكومة الكويتية الى الحدود العراقية؛ فأخذ منه ضابط الحدود 20 ديناراً وزجاجة عطر ثم ضربه.
ومن مفارقات استرجاعاته هي عندما مارس أول عملية سرقة وهو في الثلاثين من عمره فقد سرق بيت رجل هاجر الى خانقين ولم يجد في ذلك البيت إلا مكتبة فسرق مجموعة كتباً أراها لزوجته فوجدتْ أنها روايات لأرسين لوبين! فقد كانت زوجته على علم بأنه سارق وقد برر ذلك من خلال عدم موافقة الدولة على توظيفه لأنه هجا رئيس الجمهورية، كما أنها عملت خياطة في البيت لتوفر لهما لقمة العيش.
وقد كان يبرر السرقة بالقول ان كاسترو كان يسرق من الاغنياء ويعطي المسروقات للفقراء.
ومن استرجاعاته عملية التخطيط لسرقته الاخيرة فقد خطط لها جيداً فأقام علاقة مع بقال مقابل البيت ومع خادمة البيت، فدخل البيت نهاراً بعدما ساعد الخادمة في إيصال صفيحة سمن كبيرة للبيت.
لقد تضمن النص إشارات سيميائية منها قوله: ((في الظلام تضيع الأبعاد))، التي تدل على أن الوضوح في الرؤية يتلاشى في القمع والاستبداد، وقوله وهو يعانق الطفلة الصغيرة ابنه صاحبة البيت الذي يريد سرقته في الظلام: ((هذا الجمال وهذه البراءة…لا ..لا يمكن أن تكون شرطية))، ومنها أنه عقيم وذلك يدل على أن مقاومة السلطة عقيمة ولا يمكن أن تلد ثوّاراً.
ويستطيع القارئ الوقوف على موقف البطل من السرقة من خلال استرجاعاته، فعلى الرغم من تبريره للسرقة إلا إنه يرفضها من الداخل، وهذا ما يسهم في أزمة الشخصية، فهو كثيراً ما يردد عبارة (حرامي يابن العاهرة)، وعبارة ((الحراس في الخارج يترصدون الكلاب الضالة)).
وفي نهاية النص يستعيد كل استرجاعاته بطريقة هذيانية سريعة مكثفة مركزا على أهم العبارات المؤثر التي ذكرها في النص سابقاً.
الخاتمة
وفي ضوء قراءتي لمختلف عناصر النص يمكن أن أرشح بأنها قصة أكثر مما تكون رواية وذلك للأسباب التالية:
أرى أن الحدث ضيق استغرق ليلة واحدة أو سبع ساعات من العاشرة مساء الى الرابعة صباحا تقريباً وهذا الزمن لا يكفي لأن يكون النص رواية في الغالب.
إن الشخصية الريسة واحدة وهي شخصية البطل، أما الشخصيات الأخرى فهي مسطحة جاءت في ضوء ما يتذكره عنهم، أي إنها لم ترسم نفسها بل رسمتها ذاكرة البطل، فلم نعرف الأسباب التي دعت الضابط لأن يسرق زجاجة العطر، ولم نعرف شيئاً دقيقاً عن زوجته، ولم نعرف شيئاً عن الحارس الهرم، أو صاحبة البيت المسروق أو البقال، وعلى الرغم من التركيز على الخادمة إلا إن تلك الشخصية لم تتعمق جيداً. ثم إننا لم نعرف شيئاً مفصلاً عن أبيه سوى أنه قال له: (حرامي يابن العاهرة) عندما سرق حذوة الحصان وهو في العاشرة من عمره.
المؤلف
((إسماعيل فهد إسماعيل، كاتب وروائي كويتي. من مواليد 1940م. حصل على بكالوريوس أدب ونقد من المعهد العالي للفنون المسرحية – دولة الكويت … يعد الروائي إسماعيل فهد إسماعيل المؤسس الحقيقي لفن الرواية في الكويت، لكونه يمثل إحدى العلامات الروائية العربية المحسوبة في سماء فن الرواية. فلقد قدم إسماعيل الفهد روايته الأولى (كانت السماء زرقاء) عام 1970… ومن مؤلفاته ( البقعة الداكنة، قصص بيروت1965م، المستنقعات الضوئية- رواية- بيروت 1971م، الحبل – بيروت 1972م، الضفاف الأخرى -رواية- بيروت 1973م، ملف الحادث 67 -رواية- بيروت 1974م، الأقفاص واللغة المشتركة – قصص – بيروت 1974م، الشياح- -رواية- بيروت 1976م، النص – مسرحية- بيروت 1980م، القصة العربية في الكويت- دراسة- بيروت 1980م، الفعل والنقيض في أوديب سوفوكل- دراسة- بيروت -1980م، خطوة في الحلم – رواية- بيروت -1980م، الطيور والأصدقاء – رواية- بيروت -1980م، النيل يجري شمالاً- البدايات ج1- رواية- بيروت -1981م، الكلمة الفعل في مسرح سعد الله ونوس- دراسة – بيروت 1981م،- النيل يجري شمالاً- النواطير ج2- رواية 1982م، النيل يجري شمالاً- الطعم والرائحة ج3- رواية 1988م))
المصادر
الأجناس الأدبية: م.غلوينسكي. ترجمة: محمد مشبال. مجلة الصورة، السنة الرابعة، العدد الرابع، شتاء 2002.
أربعون عاماً من النقد التطبيقي/ القصة والرواية العربية المعاصرة، محمود أمين العالم،دار المستقبل العربي،القاهرة، 1994م.
الحبل، اسماعيل فهد اسماغيل، دار العودة، ط2، بيروت،1978م.
حركة السرد الروائي و مناخاته – في استراتيجيات التشكيل الروائي، كمال ريحاني، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمّان، 2005م.
الروائي إسماعيل فهد إسماعيل … الهوية هي من أكثر القضايا الروائية بالنسبة الي جدلا، عماد كامل، 52/9/2012،موقع كتابات. HTTPS://WWW.KITABAT.COM/AR
سلسلة المائة كتاب ، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ، الدار التونسية، 1986م.
مدخل لدراسة الرواية ، جيريمي هوثورن ، ترجمة : غازي درويش عطية ، سلسلة المائة كتاب ، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ، الدار التونسية ، 1986م .
مرايا الرواية ، دراسات تطبيقية في الفن الروائي، د. عادل فريجات ، إصدارات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 2000م.
نظرية الاجناس الادبية في التراث النثري، جدلية الحضور والغياب، دكتور عبد العزيز شبيل،دار محمد علي الحامي، ط1،2001م.
شاعر وكاتب عراقي| موقع قلم رصاص الثقافي