بين الإصلاح الديني، وتجديد الخطاب الديني، تولد الدولة العثمانية ببدلة وكرافات، كدولة دينية حديثة أعادت “فتح” القسطنطينية على يد 52% من المشاركين في الاستفتاء الأخير في “تركيا”، والموافقين على الاستطراد في الحروب الصليبية، وإعادة المجد إلى عثمانيا ككاسرة لشوكة الصليبيين الغزاة الذين انهزموا إلى غير رجعة في ذلك الزمان الغابر.
في ذلك الزمان الغابر، كانت بيزنطة وإيالاتها في آسيا الصغرى وأوروبا ضحية للغزو الصليبي أيضاً، كما تحولت لاحقاً ضحية للغزو القبائل التركية القادمة من أواسط آسيا على طريقة جنكيز خان وتيمور لنك، لا بل توسعت الغزوات العثمانية لتشمل جوار آسيا الصغرى في أفريقيا وأوربا وآسيا الكبرى، حيث كان الغزو في تلك العصور الغابرة هو السنة المعروفة لاستثمار فائض القوة ،وهو أمر لا يمكن الإتكاء عليه ثقافياً، فعثمانيا أو تركيا الحالية هي نتيجة غزو أيضاً، وهي ليست كل تاريخ الأناضول وآسيا الصغرى، وسبب وجودها بالمعاني الثقافية التي يكرسها خطاب الاستفتاء هو مشابه تماماً لوجود الغزو المغولي أو الصليبي، وهو وجود لا ينفي وجود بيزنطة ككيان حضاري قبل فتح القسطنطينية، كما لا ينفي الغزو الصليبي القائم شعبوياً “آنذاك” على استكمال استعادة الأندلس بعد فتحها غزواً وبمعايير ذلك الزمان الغابر .
لا يستعيد الخطاب الثقافي بعد الاستفتاء مباشرة، إلا قيم الغزو، خطاب تجتمع فيه أفكار البغضاء والعداء للآخر بلهجة شعبوية تضع دونالد ترامب على هامش بعيد هن هوامش استعراض الذات المفترضة، بانغماس أهوج في حرب كونية بفسطاطين تذكرنا بعتاة تجديد الخطاب الديني من المودودي مروراً بالأفغاني وليس انتهاء ببن لادن والظواهري، والتاريخ الحديث يشهد على تلك التحولات المفجعة للإستقلالات غير المعايرة حضاريا ، أو المعايرة بمقاييس خصوصية ،تحول التنافس إلى عداوة، والقتل إلى دفاع غير مفهوم عن النفس، وهو ما يستجلب مواجهات وجولات عنفية ليس لنتائجها أية قيمة مقارنة للأثمان التي تدفع للوصول إليها، خصوصاً أن للتاريخ العثماني / التركي الضئيل نسبياً، صفحات غير مشرقة في التعامل مع الآخر داخل الأناضول وخارجه، وهم بالأساس محتلون وليسوا أصليين (طبعا وفقط إذا كان هذا المعيار مطروحا) والخطاب الثقافي الحالي الذي يدعو إلى استعادة ما اعتبر حقوقاً جاءت بقوة الغزو، يعطي الآخرين ولو نظرياً حق الغزو المعاكس، خصوصاً في ظل خطاب يجعل من العداء والتكاره قاعدة انطلاق، “ففتح” القسطنطينية لا يعطي تركيا العثمانية صكاً بالسيطرة على بيزنطة التاريخية، وشن الحروب وإشهار العداء بحجة وراثة ممتلكات الامبرطورية البيزنطية الآفلة كحق من حقوق الغزو، لا يقدم للعالم إلا ذريعة بلهاء لاستثمار فائض القوة لديه، ضد من يسبق ولو وهما بإشعال فتيل العداء والتكاره.
الاستفتاء ونتائجه الداخلية، لا تعني أحد في العالم، ولكن نتائجه الخارجية تمس الكثيرين، فإشهار الطائفية الكونية كثقافة تفاضل بين المسلم وجميع الآخرين، يضع الإسلام نفسه في مواجهة ثقافية لا يحتاج إليها، خصوصاً وأنه تم استعماله في غزوات كثيرة ( غزوة منهاتن مثلا) وجاءت بالويل والثبور على معتنقيه وحتى على شركاء السكن في البلدان التي أنطلقوا منها، فالإسلام في التأسيس العثماني كان واجهة وغطاء لفائض القوة، ولكن في أيامنا الحالية فمن الإساءة إليه استخدامه بهذه الطريقة خصوصاً أن فائض القوة لا يستطيع حماية تلك التفاسير التحشيدية لاستعادة كامل بيزنطة كتقاسم أرضي بين الشرق والغرب.
لا يهمنا نحن القابعين بين مطرقة العالم وسندان الأقليم، ما إذا كانت الديمقراطية التركية صحيحة أم محرفة أو وهمية، ما يهمنا هو أن لا نكون وقودها وبالتالي ضحاياها، كما لا يهمنا إذا كان الاستفتاء الديموقراطي هو على إلغاء الديموقراطية، لكن ما يهمنا هو إلغاء تلك النزعة العدوانية تجاه الآخر، إن كانت نتيجة لمجريات تاريخ حقيقي أو مفترض، أم ناتجة عن اختيار شعبي حقيقي أو مزيف، أو ناتجة عن تفاسير متناقضة لحق ديني مفترض لا تتصالح عليه البشرية، مما ينتج في محصلته الأخيرة إرهاباً يختلف على تفسيره وتبريره وليس على وجوده، لذلك يبدو الخطاب الثقافي للاستفتاء كخطاب عنفي عابر للحدود، أو كمحاولة لتأسيس جيش عثماني ليستعيد ما كان قد فقده في سياق غزوه السابق لبيزنطة التي لم يعد لها وجود ،إلا في سياق صناعة الأعداء لخلق مكانة لوجود يقوم على إنكار حق الآخرين باستعادة وجودهم بذرائع دينية.
إنه التاريخ لا يمكن إعادة استخدامه بمعايير العصور المختلفة، إذ كان من الممكن قتل الرجل المريض في بداية القرن الماضي بدلاً من تفكيكه، واليوم لا يبدو الرجل المريض قد تعافى تماماً فأسباب الحمى لما تزل كامنة فيه. والمهم الوقاية من العدوى. واستخدام التاريخ في العصر يعيد للأذهان أن اسطمبول هي القسطنطينية، لأن هذا الاستخدام يساوي بين الغازي والمغزو في حق استخدام القوة.
مجلة قلم رصاص الثقافية