د. أسعد الامارة |
إن التصنيفات النفسية للشخصية قد تكون قاسية في بعض الأحيان ولا تجد قبولا لدى البعض لكن التسليم بها بات واقعًا علميًا، فحينما نصف فلان بأنه متزن وآخر غير متزن، وذلك السياسي أرعن، والآخر ثعلب في السياسة، أو هذا عدواني” سيكوباثي، شخصيته مضادة للمجتمع، وآخر له ميول إنسانية عالية، فهي تصنيفات باتت واقعية تلمسها عامة الناس، وسؤالنا: هل أن العقل هو المحرك لتلك الأنماط من الشخصية؟ كيف إذا فقد هذا العقل التوازن؟ إنها كارثة جمعية بحق.
قسم الفيلسوف افلاطون قديمًا وسمي بالتقسيم الافلاطوني ثلاثة أصناف، صنف يتعلق بجزء من البدن، وهي البطن، وجزء يتعلق بالقلب وهي عواطف القلب، وجزء يتعلق بالرأس وهو حكمة الرأس. فالعناصر الثلاثة تشكل بإتحادها إتساق السلوك والتعامل إذا ما أشبعت وحينها يكون التوازن النفسي الجسدي العقلي. وحديثًا أضافت لنا المدارس النفسية الكثير من التصنيفات القريبة للواقع والتي تعتمد على التكوين الفرضي للسلوك، والتي نستدل من خلالها على ما يفكر هذا القائد العسكري، أو السياسي المحنك، أو المنظر في الحركة السياسية وراسم الخطط.
إن من أعظم ما حققه العقل من إنجاز عبر مسيرة تطوره التاريخية، تلك القدرة على الرؤية الشاملة والثرية، للحقيقة وللواقع والأشياء لتي تمس الوجود الإنساني بأسره، تلك القدرة على رؤية ما بين الأشياء من جدل، أعني من وحدة وترابط من جانب ومن تأثير متبادل من جانب آخر، هذه الرؤية أو التنظير هو ما يطلق عليه الرؤية أو النظرة الجدلية، أو الديالكتيك، إنها رؤية للحقيقة بما هي وحدة وصراع وتوازن وحركة دائمة وتغير مستمر، هذا ما يطرحه أستاذ الأجيال الدكتور فرج أحمد فرج، فعلا إنه وجود جدلي بحق، وجود مزدوج، وجود مركب، وجود الفرد إذا استطاع أن يوظف قدراته العقلية في جدل مستمر، جدل دائم، ولكن في العقود الأخيرة في بعض بلداننا العربية سيطرت الفردية والغت حرية العقل، مما أدى إلى ضموره، وتقلصه، وربما أُسكت، أو أُخرس العقل من أن يبدع، أو يتحرك للانتاج الفكري، فكانت آزمة المثقف بتكميمه ومنعه من إبداء الرأي في أية قضية علمية، أو فلسفية، أو إبداعية، على الرغم من أن بديهيات علم نفس الأعماق ترى أنه لا يتخلق النقيض إلا من خلال نقيضه، وإلا في وحدة معه، هذه الوحده، وحدة النقيض مع نقيضه، وإيقاع هذه الوحدة وتوازن هذا الإيقاع، ويتم ذلك حتمًا من خلال الإستخدام الكامل لقدرات العقل الإنساني، هذا الإستخدام يؤدي إلى ثورة في العقل، وهي ثورة في الفكر، ليست مثل باقي الثورات التي عرفناها في بلداننا العربية عبر أكثر من خمسة عقود، ثورات وإنقلابات وإنتفاضات بالأسلحة والدبابات والمصفحات والطائرات الحربية، ويقول الفيلسوف” زكي نجيب محمود” يغلب على ثورة الفكر أن تجيء كقطرات الماء تنصب على الجلمود الأصم فتحسبها واهنة بلا أثر، وإذا بالأيام تمضي فإذا الجلمود الأصم قد تفسخ وأرهف السمع ليتلقى الرسالة، والعجب أن ثورات الفكر بصوتها الخافت الهادئ، هي التي تحرك النفوس على مدى الزمن القصير أو الطويل، ولكن كيف يكون ذلك ونحن في أزمة، فعلا إنها أزمة فكر، أزمة عقل يفكر بحرية لينطلق نحو الابداع، لا نغالي إذا قلنا إن الإستخدام الأمثل للعقل هي موهبة، والموهبة لا يمكن أن تنشأ وتنمو في المجتمعات الدكتاتورية.
لقد ولدت الدكتاتورية ظلم وقهر وتشريد وتهجير قسري والقائمة تطول بهذه الصفات وابعادها وقوة تأثيرها على البشر، لذا لا يمكن للإنسان ما أمتدت به الحياة أن يكف عن الحلم بالإستقرار والبحث عن الامن المجتمعي والغذائي، حكم العدل والعدالة، ولكن تبقى قصة التنظير والفكر والتفكير هاجسه، لإنها هي التي تغذي العقل، فلم تنشأ المذاهب وتشيد الصروح الفكرية والتفسيرية إلا من خلال تشغيل هذا الجزء من عقل الإنسان وهو تشغيل الدماغ بإنتاج فكري، وتفعيله، وتحويل الأفكار والرؤى الفلسفية إلى أرض الواقع.
السراب المقدس هل هو مصادرة لقدرات العقل:
إن العقل الإنساني هو محور وجود الإنسان، وهو الطاقة المولدة لباقي اعضاءه، وبه يبدأ الإنسان وجوده وبإنتهاءه ينتهي وجوده، أعني الميلاد والموت، ولكن كيف يعيش هذا العقل بلا فكر، بلا عمق في رؤية الأشياء وابعادها الموجودة فعلا، فالبعض منا حينما تستغلق عليه الرؤية العقلية النافذة، يقدم على الانتحار بعد أن يوصله العقل لهذه النهاية المأساوية، فيقدم وينهي حياته، والبعض يؤمن بسراب مقدس لا اساس له غير الروايات التي ربما لفقت، أو أضيف لها، أو نسجت لتداعب العاطفة فتؤثر بالإيحاء على العقل، فتتم مصادرته بكل بساطة، ويتحول العقل والسلوك إلى مطية لمن يوجهها، حتى وإن كان سرابًا مقدسًا، والمظاهر كثيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث راح البعض يقدس الموتى، ويطلب الشفاعة منهم، والبعض أختلق لنفسه معبدًا وصنع له صنمًا يقدسه، أليس هذا سراب مقدس؟ ترى الدكتوره آمال كمال محمد في اطروحتها للدكتوراه الموسومة البناء النفسي للمرضى المصابين بفقدان الشهية العصبي قولها: أنه “كما شاعت الأساطير التي واكبت ميلاد البطل الأسطوري أو التي تعد إرهاصات بمولده شاعت كذلك الأساطير الملازمة لحياته والتي تم صياغتها بحيث تحتوي على الكثير من الخوارق والقدرات المطلقة لأفعاله الجسدية، وكان أول تلك الأساطير ما يروى مع المبالغات عن قدراته الخارقة، أو عن قدراتها الخارقة إن كانت أمراة، فهو/ هي لم يكن في حياته سوى رجل بسيط، ومتواضع وإنسان عادي جدًا، ولكن بعد مماته، يتحول إلى طبيب يعالج المرضى، أو يشفي الأبكم، أو هي تتحول بعد وفاتها إلى طبيبة نسائية متخصصة في النساء للحمل أو تسهيل الولادة، وما إلى ذلك من إرهاصات نسجها العقل المصادر، فذاك المؤمن البسيط المتعبد المسالم، الذي آمن بفكر اللاعنف مدرسة، والمسالمة سلوكًا، مات سجينًا، أو عذب لحد الموت، أم ماتت وهي تعاني من عقد وحالات نفسية تشخص على وفق الطب النفسي الحديث بأنها فصامية” مريضة بمرض عقلي يسمى طبيًا بإضطراب الفصام” فتصبح بقدرة قادر طبيبة ومعالجة لحالات العقم، او تسهيل الولادة، او تساعد على الحمل، حالما تزورها المرأة العاقر، أليس هذا السراب المقدس!! هل تمت مصادرة العقل؟ هل أن العقل الجمعي نجح في ترويج هذا السراب الديني حتى أصبح مقدسًا؟ كم من رجال الدين العقلاء الذين حذروا من مهزلة تحويل المناسبات الدينية إلى طقوس وثنية، كالزحف وصولا لمقام المقدس!! أو قفز على النار حتى وإن أحترقت قدماه، فداءً للمولى المقدس، أين العقل؟
نحن فعلا في أزمة عقل!! نمشي ملايين بدون عقل من أجل سراب مقدس، مات الرجل وهو يقول لا تسيؤا لنا بما تفعلون، لا تشوهوا ثورتنا بما تفعلون، لم يقل يومًا انه مقدس، أو صبغ لنفسه صبغة الربوبية، أنه ثار، ومن بعده أولاده واحفاده بالحق، ومن أجل الحرية، ودعى إلى العقل، لا إلى مصادرته وتحويله إلى طقس وثني للتعبد أو المبالغه في تمجيده، ويبقى سؤالنا مستمرًا هل هي أزمة عقل عربي –إسلامي؟ نعم هي عبودية الفرد، وتمجيده لحد العبادة والمبالغة في تبجيله وتقديسه.
استاذ جامعي وباحث نفسي عراقي| المثقف