الرئيسية » ممحاة » السلطة وجائزة الإبداع

السلطة وجائزة الإبداع

مروان ياسين الدليمي  |

هل يمكن لسلطة سياسية تنتهك الحريات الإنسانية، أن تمنح جائزة لمبدع لطالما كان موقفه منها يقلقها، وصوته المميز عن أقرانه مبعث إزعاج دائم لها ولمؤسساتها؟

من هي تلك  السلطة التي شذت عن هذه القاعدة الراسخة التي تكاد أن تكون مقدسة في منظومة العمل والتقييم في كثير من البلدان، شرقاً وجنوباً (خاصة في عالمنا العربي)، فكرّمت مبدعاً كبيراً اعتاد أنْ يغرّد خارج سربها؟ هذا إذا لم تتجاهله وتركنه بعيداً في زاوية النسيان لتجعله يلعن اليوم الذي ولدته فيه أمّهُ. وعلى الأرجح في هذا السياق ــ الشرق أوسطي بامتياز ــ  ستلجأ الى مطاردته اينما حطت به رحلة الهروب، سعياً لاعتقاله، وفيما لو نجحت سيقضي بقية عمره خلف القضبان لا يرى الشمس، وغالباً ما تتخلص منه بطريقة ما، وكأنه لم يكن موجوداً على قيد الحياة.

والسلطة بهذا الخصوص تملك من الدهاء ما يجعلها تتجنب التورط بشكل مباشر وصريح في إعلان الحرب ضد هذا المبدع، ولهذا عادة ما تلجأ إلى أسلوب الإيحاء والتلميح، فتخاطب مريديها ووكلائها السريين العاملين في الوسط الثقافي لينوبوا عنها في حربها، تشويهاً وتسقيطاً وإساءة واعتداءً، وليس غريباً أبداً أن يلعب مثل هذا الدور أفراداً يحسبون على خانة الأدباء والكتاب والمثقفين والفنانين، فالوسط الثقافي والفني مثل غيره من الأوساط الأخرى، يضم أصنافاً شتى من البشر، منهم أقرب ما يكونوا إلى الملائكة في حضورهم الإنساني ومنهم الأقرب إلى الشياطين ولا غرابة أن يكون من بينهم  مرتزقة. 

تاريخنا وبلا فخر  – البعيد منه والقريب – فيه الكثير من الأدلة  ما تؤكد على رسوخ هذا السياق في منظومة عمل الكثير من الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على كرسي السلطة وإنْ بدرجات متفاوتة وعلى اختلاف عناوينها وايدلوجياتها.

وحتى لو حاولت بعضها أن تمارس الخديعة، كأنْ تمنح جائزة الدولة لمبدع مخلص لفنه لا غير، فإنها لن تفلح في لعبتها، لا لشيء إلاّ لأنَّ المبدع الحقيقي ذاته لا يرتضي أن يضع نفسه في مثل هذا الموقف، فيخون ضميره وجمهوره الذي يحترمه في مقابل جائزة تعبر عن تواطئه مع سلطة  سُجِّل على ممارسات أجهزتها نقاطاً سوداء، وهذا ما كان قد أقدم عليه الروائي المصري  صنع الله إبراهيم عندما رفض استلام جائزة الدولة عام 2003 أيام حكم الرئيس حسني مبارك، وكانت قيمتها النقدية تساوي 000 / 16 دولار، وفي حينها قال صنع الله: “لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب، لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان وللضرب والتعذيب.

وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته”.

وذات الموقف اتخذه أيضاً الروائي الاسباني غويتسولو عندما رفض استلام جائزة معمر القذافي للآداب عام  2009 وقيمتها النقدية 000 / 150 يورو. وقد علل موقفه هذا إلى أن “المبلغ المالي المخصص للجائزة أتى من الجماهيرية الليبية التي استولى فيها القذافي على الحكم بانقلاب عسكري، كما اعتبر نفسه ليس شخصاً ينساق مع القضايا دون قيود أو شروط، ولا يتردد في انتقاد الأنظمة السلطوية، سواء كانت دينية أو جمهوريات وراثية، التي تحكم شعوبها وتبقيهم في الفقر والجهل”.

الأنظمة التي تطالها الشبهات خاصة في إطار حريات التعبير وحقوق الإنسان تسعى دائماً إلى أن تستر عورتها بإطلاق فعاليات ومهرجانات فنية كبيرة تغدق عليها ميزانيات ضخمة حتى لو كانت ميزانيتها تعاني  ضائقة مالية وشعوبها ترزح تحت ظل بطالة وامية وشظف العيش، ولعل مسألة منح الجوائز للمبدعين تأتي في أولويات خططها التي تهدف من ورائها إلى تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي لتبدو أمامه راعية للثقافة والفنون نظراً لما تشكله هذه الأنشطة والفعاليات من أهمية لدى الشعوب والبلدان المتحضرة، وربما تنجح إلى حد ما في خديعتها هذه لكنها لن تستطيع أن تمارس هذا الدور إلى آخر الشوط طالما الأمر برمته قائم على الكذب، وحبل الكذب قصير مهما طال الزمن.

لا قيمة لأية جائزة تمنح لمبدع إذا كانت تقف ورائها جهة سياسية، لأنها ستجردها من إطارها الثقافي لتضعها في سياق مشروعها السياسي (ايدولوجي،ديني،مذهبي)، وبالتالي ستصدر حكماً بحق المبدع ونتاجه لتضعهما معا  في خانة ضيقة أشبه بزنزانة انفرادية مدى الحياة بدل أن يحلقا في فضاء واسع لا تحده حدود ولا جدران.

كثيرة هي الجوائز التي أطلقتها أنظمة وحكومات اختفت مع سقوطها، وبعض من نال تلك الجوائز حاول أن يتبرأ منها ومن النظام الذي منحه إياها أيام جبروته ومجده ولكن بعد فوات الآوان(مثلما فعل البعض ممن استلموا جائزة القذافي على سبيل المثال)، وكان على هؤلاء أن يدركوا في حينه بأن الجائزة ليست قيمتها بذاتها مهما كانت قيمتها المادية عالية، بل بالجهة التي تقف ورائها.

وما زالت جائزة نوبل ــ رغم أنها أرفع جائزة عالمية ولا علاقة لها بدولة أو نظام سياسي ــ  يدور حولها الكثير من اللغط بسبب الدور الذي سبق أن لعبه مؤسسها الصناعي السويدي الفريد نوبل 1895، في  اختراع الديناميت، فكيف بنا أمام جوائز تمنحها أنظمة متورطة حتى العظم في سياسات القتل والتهجير الطائفي والعرقي  لشعوبها.

كاتب وإعلامي عراقي  | مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *