في النوادي الرياضية ثمة جهاز ( ماكينا) للمشي لطالما تأملته كما غيري من المتأملين الآملين أن يصل راكب هذا الجهاز إلى وجهته المقصودة على ما بذل ويبذل من جهد وعرق وتعب، خصوصاً وأن اتجاه وجهه وكذلك سيره وحركة قدميه كلها في الاتجاه السليم، وكذلك فكرة الجهاز وتكنولوجيته الحديثة وعمله وحتى عدادات السرعة والمسافة كلها تعمل بشكل صحيح، ولكنه ويا للخيبة لا يصل هذا الراكب الى أي مكان.
طريفة هي المقارنة المقارنة بين هذا الجهاز وأداؤه وأداء مستخدمه، وبين الجهاز الناظم الضابط أو الظابط لحركة هذه السكانيات الناطقة كلياً أو جزئياً أو بشكل واه باللغة العربية، هذا الجهاز الذي أصطلح على تسميته في الأمم المتحدة (دولة)، فيها سكان وبنى تحتية وفوقية في طور النماء المستديم المستمر إلى الأبد، ولها باسبورت وعلم وحرس حدود، وهي موجودة في العصر والأوان بشهادة اللافتة التي توضع أمام الوفود في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أنه في تاريخ كذا من العصر كذا كان هناك هذه ( الدولة، سكاناً وحكومات ) أو (تلك) مسجلة كعضو مؤسس في هذه الهيئة الدولية، حيث كانت هذه ( الدول) مع بدء عضويتها في هذه المنظمة، متقدمة في معظم المعايير آنذاك على الكثير من الدول المشابهة لها في الظروف، ولكن الحال تغيرت الآن وتغيرت معها المعايير أيضاً، وتغيرت الدول والشعوب والسكانيات والمجتمعات إلى واقع آخر مختلف، على الرغم من جميع الجهود المبذولة والأمنيات الخلابة، والعمل على اللحاق بالأنموذج الناجح، ولا جدوى ليس في يومنا هذا بل لأجيال عديدة قادمة.
لا يبدو الأمر لغزاً، فالجميع اجتهد واشتغل ونوى كي يكون في مصاف البلدان الناجحة، ولكن وعلى حين غرة ينفصم المعيار، ليصير من شطرين، الأول لهم هم في تلك البلدان البعيدة يقايسون ما يشاءون بما يناسبهم، والثاني هو للبلدان المذكورة أعلاه، تعاير وتقايس ما تشاء بما يناسبنها، لترى نفسها ـ وبكل رضى ـ في مصاف هاتيك البلدان وربما أكثر فاعلية، ومع هذا يبقى الفارق هائلا على أرض الواقع، متمثلاً بالهوة بين الثراء والتنمية.
والثراء والتنمية مسألة استثمارية، تتمثل بالنجاح في توظيف الإمكانيات الموجودة، أو التي يمكن إيجادها في سبيل التماثل والندية مع الأنموذج الغالب، وهذا موضوع حضاري، لا يمكن ممارسته دون الاستثمار في الإمكانيات البشرية الناتجة عن المعرفة وكالحرية والكرامة الإنسانية وتمكين المرأة وغيرها، بمعنى الاستثمار بها كمواد أولية جديدة قادرة على إعادة إنتاج المعرفة المعادلة لدور العمل في الاقتصاد القديم، فحرية الفرد كمثال، وخصوصاً صيانة كرامته هي ممارسة مفتوحة للإنتاج الابتكاري الإبداعي، حيث لا اقتصاد حديث ومنافس دون حرية وكرامة بشرية، حيث يتضافر وينجدل كل إنتاج في سيرورة الحياة.
هناك فجوات وهوّات عديدة في حياتنا “العربية” المعاصرة تجعل منا كالسائرين على ذاك الحزام المتحرك، والمأزق يبدو في عدم الموافقة على تمثل القيم المعرفية الكونية، وهي قيم معايرة على الرغم من تغيرها الارتقائي، هذا الرفض (أو ما يمكن تسميته الحرية الوحيدة التي يتمتع بها الساكن في البلاد الناطقة بالعربية كليا أو جزئيا )، يمكن تفسيره إما بالرضى عن الهوان والتمسك به كحالة أصالية تفاخرية تعوض النقص الواقعي بالإنتاج، أوبالانقطاع عن الالتزام بالمعرفة الذي يفرضه حادث العلم، أو الإثنان معاً، وهذا لا يفسر الهزائم المتكررة فقط، بل الهزائم المستقبلية أيضاً، والذي يبدأ رفضها وهمياً قبل أن تحصل، وبذلك يتم تجاوز حتى مثال الرجل السائر على حزام متحرك إلى مثال آخر هو من تلقى مئة صفعة على حين غرة!!.
فهل الحرية والكرامة البشرية كمعرفة قابلتين للاستثمار؟ نعم وبدليل أن الاستبداد والتسلط يستثمرهما بكل سلاسة، ولكن السؤال يبدو منقوصاً إذا لم نضف كلمة التنمية عليه، تلك العملية المعايرة هي ونتائجها، هي عملية محاسب عليها أيضا ، فالحرية في التنمية مثلا ،لا تعني التحرر من معيقات الإنتاج والسقوف المفروضة عليه فقط، بل هي مولجة في المحاسبة على الفشل أيضاً، فالفشل لا يخفى على معيار حتى لو تم تكييف هذا المعيار وتعديله ليصبح مناسباً، فأثمان فشل التنمية باهظة الى درجة تهديد الوجود برمته.
وتهديد الوجود برمته، ليس حادثاً مغموراً أو غير موجود على هذه الكرة الأرضية، فبيزنطة كحادث تاريخي وكمثال، احتلها العثمانيون بعد أن قضم العرب جزء منها واختفت من الوجود، كما اختفى جزء من امبراطورية بني عثمان في مجريات سايكس بيكو والثورة العربية الكبرى، وكذلك اختفت دولة مصر والسودان لتصبحا أمتين، وتفكك العراق عام 2003 اخفاه عن الوجود واقعياً أو كما كان على الأقل كمثال قريب من وقتنا الراهن، لتبدو المسألة أخطر مما نعي أو نعلم أو نعرف، إنها الهوة المعرفية / الحضارية التي تفصل القوي عن الضعيف، حيث يظهر أن حق اختيار رفض المعرفة، وكذلك حق إختيار المعيار المناسب للخصوصية، وممارسة هذه الحقوق واقعياً، هو سباق محموم مع الذات نحو الفناء كعقاب على رفض المعرفة والتورط في تزييف المعايير، فالسير على الحزام المتحرك لا يفضي إلى مكان إلا إذا تعثر الماشي ( أي تفركش ) وسقط على أم رأسه ( أي على بوزه)، عندها سوف يتهم التكنولوجيا الحديثة بأنها تخطط منذ الأزل لإيقاعه متخذاً من فشله دليلاً على فساد المعرفة.
الحياة في هذه الدنيا ليست مزحة، وليست أحاجي يفك طلاسمها الغالب، إنها عملية القبول بالمعرفة وممارستها واحترامها وتأدية استحقاقاتها ودراسة نتائجها من أجل إنتاج معرفة جديدة، تشكل عصب الوجود الإنساني المقاوم للفناء.
مجلة قلم رصاص الثقافية