ناصر الحرشي |
اقتبس الكاتب الفرنسي جون أنويل مسرحية « أونتيغون « التراجيدية من شاعر الملاحم الإغريقي سوفوكل، وهي تتقارب تناصيا مع منجز ثراتي ملحمي إغريقي هو الإلياذة والأوديسة لهوميروس، بأبطالها المأساويين ومأثوراتها الخالدة.
ففي هذا المرسل النصي المسرحي، تتناسل حركة المشاهد وتتدفق في خط متواز، إن على صعيد التشكل والبناء، أو على صعيد علاقته بالخطابات الرمزية الملفوظة بكل تلويناتها ومنعرجاتها، مضمرها ومظهرها، بما أن كل إبداع هو ممارسة لغوية حاملة لحزمة من العلامات والمدلولات كخطاب كوني بامتياز، تمارسه كل الثقافات والحضارات في وظائفه المتعددة من سياسية، اجتماعية، دينية، قانونية ونفسية، وهو ليس مقصورا على طبقة اجتماعية دون أخرى.
انطلاقا من خصوصية هذه المسرحية وخصوصية ركائزها، يستوقفنا العنوان كعتبة أولى بانفراده على السطر «أونتيغون» اسم علم مؤنث لأميرة شابة ببشرتها السوداء ونحافة جسمها وقوامها المنحوت. هذا الوصف ينقله مقام إبلاغي «جون أنويل» بوصفه منتجا لعنوان النص، وهو قناة وجسر عبور نحو المتن وما يفجره من أسئلة، ليبدأ حوار القارئ مع منطوقه ومضمره الدلالي، ليحمل دلالة ضدية وسالبة لتاريخ امرأة بما هو تاريخ مفكك ومبعثر، في إشارة إلى أزمة كساد كبير تعيشها مملكة طيبة، في ظل حكم عمها «كريون». هذا الملك الطاغية المعروف باستبداده وبطشه، فهذا الصوت الأنثوي التصادمي يقف على ويلات الانهيار والنتائج المترتبة على سوء تدبير أمور الدولة، مع غياب حكامة جيدة في طبيعة هذا الحكم الكلياني المطلق، حيث يجسد عمها أحد رموزه وعنوانه الصارخ، وهي التي ستذوق مرارة هذا التحول بعد وفاة أبيها الملك «أوديب» وأمها. لأنها القلب النابض داخل هذه السلالة الحاكمة، التواقة إلى تقويم اعوجاجها بعد أن دمرها التطاحن على السلطة والاستئثار بها، وهي تشكك بصحة التعاليم السلطوية الذكورية، لأنها المنفية الوحيدة في قصر يشبه سجنا بقضبانه وبجلاوزته الذكوريين. فالقداسة الوحيدة التي تنتمي إليها هي حريتها والتمرد على الميراث، لأنها ترفض كل أشكال الوصاية مهما كان الثمن وهي المتنبئة لموتها. وهي خلقت لتموت لا لتعيش، شاردة الذهن، حزينة، وحيدة في مواجهة العالم لا تقبل المصالحة مع شرطها المتدهور، وهي في شجار مستمر مع عمها الملك المستبد، وهي لا تؤمن بخرافة الذكر المركز الذي تدور حوله الأشياء ومن ضمنها الأنثى، هذه المركزية التي يغيب تفاعلها وفاعليتها داخل محيطها، مع وعيها بما يكتنف خطواتها من مخاطر وإلغائها من خريطة الوجود.
ومن وجهة نظر هذه الزاوية يكشف صاحب النص عبر هذا النسيج الحواري الدراماتيكي البعد النفسي لشخصية «أونتيغون» وصراعها الداخلي لكسر حدة الغربة والخواء الروحي، الذي يحكم قبضته على كل تفاصيل حياتها، ولا يترك لها فرصة الانفلات. إلا أن هذا لا يثنيها عن البحث عن مخرج لتحقيق ذاتها وإثبات حضورها الإنساني الكامل، كمقاتلة طروادية تنازل شريعة عمها الملك «كريون»، وترفض التنازل عن مثلها ومبادئها، وأولها الحرية.
يكاد لا يخلو مشهد من فصول هذه المسرحية إلا وتظهر فيه «أونتيغون» هذه الأميرة الهزيلة الجسد والمتمردة، استياء وعدم تخليها يوما عن إحساسها الفطري بذاتها، بعكس أختها «إيزمين» الشقراء الجميلة المهادنة والهاربة من كل مواجهة، المفسحة المجال لنظام الذكر وشرائعه.
كل الأصوات المتعددة الذي يحفل بها فضاء المسرحية أخف وطأة من صوت «أونتيغون» الثائر وصوت «كريون» السلطوي، أما «هيمون» ابن عمها وخطيبها المتيم بها «أوغيديس»، أمه، وزوجة الملك، أختها «إيزمين»، المربية، الحرس ثم الأصوات الحاضرة الغائبة، الملك «أوديب» زوجته الملكة، «إيتيوكل»، «بولينيس» وهم أفراد أسرة «أونتيغون»، الذين غيبهم الموت، هم مجرد أصداء وبقايا صور باهتة تهاوت في مساراتها الحياتية احتلها اللاشيء وهم ضحايا هواجس «كريون» الجنونية، عاجزين عن فقه الواقع وتغييره بتناقضاته الكثيرة، بعد أن حولهم إلى وسائل لقهر الذات. والآخرون وهم في حالة صراعية فصامية تصل أحيانا كثيرة إلى الثأتيم والتوضيع.
وانعكاسا لهذه الهشاشة السيكولوجية الجماعية والفردية لكل أبطال هذه المسرحية، فهم يعيشون في متاهة اجتماعية تختلط عليهم مساراتها، محبطين ومسكونين بالبحث عن انتماء يوفر لهم حدودا دنيا من الاطمئنان والأمان، لكن تفكك الروابط بينهم، خصوصا أفراد العائلة الحاكمة والمالكة بطيبة يتمظهر في ميلهم إلى الانطواء على الذات وغياب التواصل بين الأميرة وعمها من جهة، والأمير «هيمون» خطيبها وأبيه الملك من جهة ثانية، وهو حاصل اختلالات نجد لها تجليات على كل المستويات. إنها المعايير السلوكية والأشكال العلائقية المبنية على منطق القوة واللامساواة حتى بين أفراد هذه العائلة الملكية.
«أونتيغون» تقاوم صمت الأنثى بداخلها، وهو صمت ثقيل الوطأة يلف كل أرجاء القصر، بسبب قواعد «كريون» المفروضة على الجميع، والمطالبين بالالتزام بها تحت طائلة الإكراه والقهر. فهي لا تحب أن تكون نسخة عن زوجة هذا الطاغية «أوغيديس» الصامتة والخرساء من بداية المسرحية لنهايتها، المنشغلة فقط بخياطة الملابس، والمسلوبة من حقها في الكلام والاحتجاج، والتي انتحرت فور سماعها خبر انتحار ابنها «هيمون» احتجاجا على نظام حكم أبيه وحكمه بالموت على «أونتيغون» برميها حية في حفرة سحيقة، والتي بدورها فضّلت الانتحار على الموت البطيء في أسحاقها. إن هذه الأميرة الصغيرة والأسطورة لا تمثل ذاتها منفردة، بل تختصر أصوات كل النساء اللواتي لقين المصير نفسه من نفي وتهميش ووأد وعذاب، لم ينقذهن أحد ولم يصنع صوتهن أحد، وهو صوت لم ينتصر إلا لصوت الحب، الحرية والطبيعة طريقا للسمو وتحقيق الاتحاد بين الذات والعالم. إنها امرأة عانت فكسرت قيودها لتعلن شريعتها بديلا عن شريعة «كريون»، مفضلة الموت على أن تكون تابعة وأن تقول فقط نعم لنزوات الذكر. إنها نموذج الخيار الحر، وثورة أنثى على كل النصوص التي لا تعترف بكيانها الإنساني الكامل، وهي التي حرمتها من حق التصرف في حياتها، بل هددت أمنها الأنطولوجي الذي يضمن تناغمها وانسجامها مع نفسها، ما أدخلها في مرحلة الفزع والفراغ الداخلي، مع غياب الحس والإدراك وعبثية الوجود. رغم انتماء «أونتيغون» لطبقة اجتماعية مهيمنة بطيبة، فإن قانون التنافي المطلق قائم بالضرورة بينها وبين طبقتها، وبين أفراد هذه الطبقة التي تربطها أواصر قرابة ودم، كالحرب القذرة على السلطة التي نشبت بين أخويها «إيتيوكل» و»بولينيس»، والتي انتهت بمقتلهما قرب أسوار هذه المدينة، ثم الأوامر التي صدرت من لدن «كريون» بإقامة طقوس الحداد والدفن «لإيتيوكل» مع ترك جثة «بولينيس» تتعفن فريسة للطيور الجارحة، ما أدى إلى إغضاب الصغيرة أونتغيون ومحاولتها دفن هذا الأخير، إلى أن ضبطت متلبسة بمعولها وتعريضها لعقوبة الموت لمخالفة أوامر الملك، وشق عصا طاعته.
إذا أمعنا النظر في طبيعة البنية الاجتماعية لمجتمع طيبة القديم بقاعدته المادية المحددة لعلاقات إنتاجه، وهي في جوهرها بنية اجتماعية قائمة على نظام الرق في علاقة تناقض تناحري بين الأسياد والعبيد، لكن في هذه التراجيديا الأسياد هم الذين يتمردون على الأسياد وليس العبيد. الصراع هنا قائم بين من يحتلون قمة البناء الاجتماعي في إطار علاقات الإنتاج القائمة، فالتغيير المطلوب هنا من فوق وليس من تحت. وهذا التغيير المنشود ليس من أجل بناء مساواتي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والشرط الاجتماعي والمنزلة السياسية. فالصراع الذي انفجر بين «إيتيوكل» و»بولينيس» كان من أجل الاستئثار بالسلطة، وليس الثورة على البنية الاجتماعية القديمة.. أو هو فقط انفجار تناقضات الكتلة الطبقية السائدة، وهو نوع من التمرد على السلطة من داخلها، وليس هو نابع من قاع مجتمع طيبة. فيستمر ماضي هذه البنية حاضرا ليصير زمنا يتجدد يروم توطيد أركان الدولة القهرية.
الشابة أنتغيون هذه البطلة الباسلة لا تستسلم كلية لقدرها، بل يزداد تمردها كلما ازدادت أشكال إلغائها.. وهي المساجلة والمجاذلة الرافضة لزمن لا يمثل زمنها الحقيقي.. فهي تعري تاريخا وتكشف سلبياته. إنها ترفض دور المرأة المستلبة وتدعو للتحرر من موروث ثقافي يصادر حقها في الاختلاف، ولأنها امرأة لا تقيم وزنا لصوت الحاكم، فهي العقبة الكؤود غير الراضخة لحكمه.. فهي الحالمة والمتوحدة، وهي العاشقة والذاهبة إلى حتفها كأنها ذاهبة إلى عرس جنائزي.. مؤمنة فقط بإنسانيتها وبرجل يحبها ويعترف بها.
إن فلسفة أونتغيون هي فلسفة تفكير وتشكيك في كل الثقافات التي حاصرت الأنثى، لكونها لغزا عجيبا حيّر الذكر، لأنه محكوم باعتقاد مغلوط بتفوقه عليها، وليس الانصات إلى صوت الإنسان بداخلها.. وهذا اللغز لا يمكن أن يفهمه إلا إذا صحح اختلال علاقته بها ضمن سيرورة تنشئة اجتماعية تبعده عن التصورات السلبية المرتبطة بالأفكار المسبقة التي ظلمت الأنثى كيانا وكينونة.
الملك « كريون» بعمى طغيانه دمر أسرته الصغيرة، وبقي منبوذا وحيدا في قصره.. وهكذا في عالم التجاذب والاستقطاب، وبسبب تغييب الناس وإقامة حاجز بينهم وبين حكامهم يزداد الشرخ ويتسع الأخدود، بعد أن أخذت السلطة تعتمد على القوة تم الترويض في مجتمع طيبة الغارقة في الصمت والظلام، وفي صمتها انتظار وبقية ترقب تنتظر قيامة أونتيغون ..هذه النمرة التي لا تقبل الترويض، لتعيد كرتها من جديد.. فالخيل تسقط تباعا لكنها تنهض قوية وجامحة.
مسرحية «أونتيغون» هي تراجيديا حقيقية برعشاتها الضمنية والجهيرة، وهي لوحة تعبيرية للأحزان.. القيم.. التضحية.. الحب.. الأشــواق.. التساؤلات ومحن الإنسان.
كاتب مغربي | القدس العربي