فاديا عيسى قراجة |
عازف الناي قلت لي ذات لقاء بعد أن حشرتَ أصابعي في صدرك :
– هل تعلمين يا شمس أن للرجل بكارة كالتي للمرأة ؟
ابتسمتُ، وتابعتُ كلماتك بشغفٍ .. فأكملتَ وأنت تلهو بخصلات شعري :
– لكن الفرق بين البكارتين أن المرأة تفقدها عند أول اتصال مع الرجل، بينما الرجل يبقى في بحث طويل عن المرأة التي ستفض بكارته .. وتدخل مندرجات حنينه…
يومها يا قمري، فرقعتْ ضحكتي على عبث أفكارك ومجونها، كانت فلسفتك للأمور مذهلة ..
فأكملتَ:
– هي بكارة الروح يا شمس ..أقسم بأنه لم تعبر روحي امرأة كما عبرتها و أنت متسلحة بكل أدوات الذكورة القاهرة.
وفي جنون آخر قلت لي:
– خاتون قتلت شجرة الدر من أجل رجل ..قتلتها بقباقيب جواريها .. ماذا تفعلين لو كنت مكانها ؟
قلت لك وأنا أختبئ بين طيات زندك:
– أما أنا يا قمري لو كنت مكانها أقتل نساء الأرض ورجالها كيلا يبقى سوانا ..
كم كانت تغريني لعبة الأسماء يا قمر، وكم كنت طفلاً في دهشتك وأنا أستعير من الغابة أسمائها وأعطيها لمفاتنك التي كانت تغريني في اقتحامها أو فضها كما تحلو لك التسمية ..
كنت أمسك بالقلم وأنت تستسلم لصريره، أكتب قصصي الطويلة على بشرتك السمراء، أموت فوق إلحاح الفكرة، أتصبب عرقاً فوق مساحاتك التي تنفتح و نغلق صفحة إثر صفحة …أرسم قهري، فرحي، عبثي وجنوني.. فتخرج من غرفتي، تمشي مختالاً وأنت تحمل وشم أفكاري المجنونة ..
كنتَ عازف الناي، وكنتُ راقصة أحزانك، هل تذكر يا قمري عندما استلقيتَ فوق أرض الغرفة الباردة، وطلبت مني أن أنفض رماد سجائري داخل ثقوب الناي، وأمرتني أن أدور حولك مثل دراويش الزوايا، لتبدأ بعزف لحن طيَّر رماد دخاني، درت حولك، ودارت بي الغرفة، ودارت الحكايا من ثقوب ناي عصي على الدمع ..
رسمتْ ألحانك بيتاً كان في زمن ما يضمني مع أناس من طين وغربة، رسمتْ لي بنتاً، كانت تبتكر لوحات ناقصة لحلم ٍ مقطوع الرأس ..
كان صوت الناي مجروحاً وكان دوراني مجروحاً، وكانت الغرفة لا تتسع لهذه الجراح كلها، فتتسلل من شقوق الباب ندوب المسحوقين، المهمشين، الذين قتلتهم لعنات الحب، وكنت يا قمري تستلقي فوق أرض طينية تعزف لحناً طينياً لفتى تلاعبت به الأقدار، وجعلته بواباً على مملكة الأحزان ..
كم كنت حزيناً يا قمري .. أنهيت نوبة عزفك ببكاء حاد , فاستلقيت قربك , ونمت فوق صدرك وأنا أضغط على براكين الدموع كي تجف .. حتى زار عينيك الوسن وأصبحت مثل طفل يتأرجح فوق صدر أمه ..
كم قلت لي: لك نصف عيني ونصف قلبي ,كي تذكريني في الحزن والفرح
ضحكت يومها من عبارتك وقلت لك:
– لمثلنا لم يخلق الفرح، وإن جاءنا، فسيأتي على صهوة من الأحزان.
صفقت كعصفور سعيد، وجذبتني إلى صدرك كي أرعى مروجك العامرة بقهر الكون كله..
ومن يومها ونحن نتقاسم لعبة الأنصاف، والأرباع بمتعة مومس تظن بأنها تضحك على روادها بما تسرقه من جيوبهم دون أن تدرك أن ما يخسروه سيعود لجيوبهم حتماً، بينما ما تخسره هي لن يعود إليها أبداً …
والآن ماالذي حصل يا قمري ؟
أين ألحانك التي كانت تستحضرني قبل النوم وبين الوجبات مثل عقاقير ملونة بلون مر ؟
في آخر مرة جئتني كنت أهيئ نفسي لعريٍّ من نوع خاص ..قلت لي قبل مجيئك – سأضع آخر ألحاني اليوم، وسأكتب النوتة الأخيرة فوق هاماتك الثلجية ..
كم كانت حفلتي طويلة وأنا أجهز لك العبق والريحان والبنفسج الذي تحبه ..
غرفتي الترابية تحولت إلى جنة من نار وتراب .. لم أترك زاوية دون أن ألبسها لوناً واسماً خاصاً بألحان كتبناها سوياً …
دخلت في آخر مرة احتضنتني بيد واحدة، فقد كان يتدلى الناي من يدك اليمنى، دخلت مهزوماً، افترشت جنتي الطينية، وأشعلت لفافة اهتزت بين أصابعك ..
كانت حاستي أنثوية بامتياز ..قلت لي :
– لن أقتلك بالحزن كما تفعلين، سأقتلك بما تحبين …. قبَّلت مبسم الناي فخرجت ألحانك جنائزية، تقول ما لا يقال.. جلست قربك ألوذ بأفكاري .. وتطفر الدموع من عينيّ..
فجأة أُغلقت ثقوب الناي، وتوقف العازفُ عن ألحانه، وأسدلت الستارة أمام جمهور غائب، وعازف ميت، وراقصة عرجاء ..
قلت لي : عندما يبلغ الحزن ذروته، يصبح التعبير عنه حيادياً .
هل كان كلامك نبوءة يا قمر ؟
هل تخبرنا أقدارنا بما هو آت ؟
من سيقتل الحزن باللحن ؟ لمن ستترك المسرح ؟
صاح مارد الحزن في صوتك:
– أين الجمهور يا شمس ؟ لقد ملوا أحزاني … تعرفين يا شمسي أن البكاء خسر معركة الوفاء معي .. اعتذر، وراح يبحث لي عن بلسم آخر يفوق طهره، وعندما عجز، رجع باكياً يحمل لي بكاء آخر ..ومعركة أخرى أنا خاسرها ..دعيني يا شمس… أيُّ امرأة أنت ألا تملين ؟ هنا جثة تعفنت لبقايا انسان ..هنا ..هنا …هنا .
كنت تدق على صدرك بعنف يشابه عنف قهرك ووحدتك ..
قلت قبل أن تغادرني :
– أنا الذي خذلتني الأنوثة … كوني أمي يا شمسي، أعيديني إلى رحمك، ولا تلديني ثانية لفرح لن يأتي.
كم كنت شقية بك يا قمر … كم علمتني من حزنك، وكم علمتك من قهري؟
كم ستتذكرك حكاياتي ؟
كم سأستحضر لحظات كنت فيها ربع عيني، وربع قلبي، ونصف حنيني؟
رحلت دون ناي، هل نسيتها في غرفتي التي تستنبت الريحان والنسرين والبنفسج فوق أرض طينية، أم تركتها قاصداً كي تبقى لحناً لا ينتهي لحكاياتي؟
كاتبة وقاصة سورية | موقع قلم رصاص الثقافي