يعتقد السياسيون اليوم أو بالأحرى أصحاب “الشركات السياسية”، أنهم يمتطون رجال الدين في صناعة حشد مناسب يصنع ومن ثم يؤكد ضرورة حضورهم السياسي التمثيلي كقادة رأي أو كشخصيات عامة، في المقابل يعتقد رجال الدين بأنهم يمتطون هؤلاء السياسيون للتبشير بالإيمان والفضيلة واستحقاقاتها الدنيوية المؤقتة تحضيرا لآخرة دائمة فيها العقاب والثواب.
بداية. عند هذه النقطة تتشابك المصالح وتتنوع وتتراتب، ويتم الإعتراف المتبادل بالأدوار والصلاحيات والمكاسب، ليصبح السياسي مندوباً من قبل رجل الدين عند ما يسمى “دولة” تختصر وتنكمش لتصبح حكومة وأجهزة، والعكس بالعكس يصبح رجل الدين مندوباً للسياسي عند الحشود التواقة لدخول الجنة عن طريق تأييد هذا السياسي أو ذاك بتزكية من رجل الدين (وفي الفترة الأخيرة سيدات الدين أيضاً سدا لثغرة الجندرة)، ليحصد الشعب استنفاراً دائماً هو جزءٌ من حرب أهلية قادمة لا محالة كأحد التطبيقات الجذابة لهذا التشابك.
ربما كان ما قلناه أعلاه معروفاً لدى العامة قبل الخاصة، ولكن النقاش حوله أو فيه يفتح بوابة جهنم، فالحدود الفاصلة غائمة مموهة ومطاطة بين الدين والتدين وممارسة الشعائر والاحتماء بالقبيلة الدينية، والموقف من الآخر، وموقف الآخر منك حسب التصنيف والتوصيف الديني، وعائدية الدين والتعاليم الدينية كملكية خاصة تتربص بمن تعتبره معتد على هذه الملكية وإلخ من هذه التطبيقات المتنوعة والمتشابكة التي ينتجها هذا النوع من الأداء الاجتماعي غير الملزم بالمعرفة التي أنتجتها البشرية مجتمعة.
هنا يبدو الإعلام بكافة تجلياته كواحد من هذه التطبيقات التي ينتجها هذا الأداء الاجتماعي، وهو حشر رجال الدين في كافة منتجاته لإعلان المعيار الديني مقياس تأسيسي في رؤية الظاهرة الاجتماعية من ثقافية وسياسية وإقتصادية، بحيث ينسلخ عن دوره المعرفي كواحد من منتجات الحداثة المسؤولة عن الوحدة الاجتماعية عبر مدها بالمعلومة بحياد موضوعي، قاصدة التغيير في الذهنية وليس المحافظة على على الحال كما هو عليه الآن حتى لو كان مقبول أكثرياً.
وهنا لا أقصد وسائل الإعلام ( مكتوبة مسموعة مرئية) المستقطبة سلفاً، والمنحازة إلى هنا أو هناك. وإنما أقصد تلك الوسائل المدنية التي تعلن الحياد والموضوعية، في أخبارها وبرامجها والتي تذهب إلى رجال الدين لاستفتائهم وبيان حكمهم في جميع المسائل والسلوكيات، وتكرس لهم مكانة استثنائية تتجاوز الرأي (إلا مابين رجال الدين أنفسهم) كما تتجاوز الإرشاد والنصح إلى ما هو حكم مبرم على صوابية أو خطأ الأداء الإنساني الاجتماعي (وليس المجتمعي على أية حال) قامعين في أحكامهم هذه كل صاحب علم أو معرفة اختصاصية في فصل تبشيري بين الحق والباطل، فالعلم قد حدث وحصل سابقاً، وما هذه الترهات إلا محاولات للإخراج من الملة، فمن ارتضى لنفسه هذا فليحتمل العواقب بحسب ما يقول العلم الذي يتنكبه هؤلا، حيث يصرون على الإختصاصية فمن لا يعلم بالدين فليصمت أو يسأل فقط.
في البرامج الثقافية الشعبية ذات الإقبال الشعبي الشديد، يتصدر رجال الدين المشهد، بغض النظر عن الموضوع أو الاختصاص فلديهم إجابات تحريماً وتحليلاً وتهديداً لكل شيىء، وهذا أمر بدهي يعبر عن دورهم ووظيفتهم، فلا عتب ولا إدانة، ولكن العتب والإدانة على المنابر الإعلامية التي وعدت بأن تكون مدنية وفي وعدها هذا تعاقد مدني غير مكتوب مع الجمهور، والنكث بالوعد هو وبالتحديد خيانة ليس للجمهور وحاجاته من المعلومات والمعارف، بل هو خيانة للحقائق العلمية المتغيرة والمتطورة الواجب رصدها مع كل إعلان عن ظاهرة إجتماعية أو مشكلة معيشية.
هنا تبدو المنابر الإعلامية قزمة تماماً مع كل البهرجة الفضفاضة التي تجللها أمام السياسي والشعبوي عبر محاولتها التقرب من الجمهور، وكسب رضا السياسيين بواسطة استخدام رجال في البرامج والحوارات الساخنة والتي تشكل (سكوب ) إعلامي إعلاني حول بعض الأداءات الاجتماعية ذات الصبغة الفضائحية كالشذوذ أو التحول الجنسي وزواج القاصرات والزواج المدني والشعر والأدب والفن، وهي مواضيع حساسة وضرورية وبحاجة إلى اختصاصات معرفية لا تنطق عن الهوى، ولا تحكم من خارج موضوعها المعروض، فشعر نزار قباني لا يحتاج في تحليله إلى رجل دين يفرز الحلال من الحرام في قصائده وكلماته، ففي المبدأ يحق لرجل الدين أن يكون ناقداً أدبياً متخصصاً في هذا الفرع من المعرفة يقدم أداءً نقدياً معايراً وليس اجتهادات فقهية مقارباتية، وينطبق ذلك على المسائل الاجتماعية والحقوقية التي تحتاج إلى علماء اجتماع وخبراء قوانين بحيث لا يجوز لرجل الدين سقف معارفها بحدود معارفه، وغستحضاره بمناسبة ومن دون مناسبة هو أدعى إلى تعقيد الإشكالات المطروحة عوضاً عن حلها، وما ينتج عن هذا التعقيد من إستقطابات مخلة تودي إلى العنف كيفما أتت.
على التوازي يمارس مسؤولو هذه المنابر الإعلامية خضوعاً تشريفياً خاصاً، يؤثر في حيادية المعلومات، فبالإضافة إلى مكانتها الاستثنائية كونها صادرة عن رجل دين، هناك مسألة عدم سيرانها على الجميع، وهذا ما يناقضها مع الأطروحات العلمية المقترحة لحل هذه المشكلة أو لتحليل تلك الظاهرة، مما يحيل الخضوع التشريفي هذا إلى أنواع من التملق والاسترضاء، عبر وضع رجال الدين خارج مكان اختصاصهم الطبيعي والمحترم، ما يؤدي إلى تبعثر معلوماتي عند المتلقي يؤدي إلى توهان معرفي تختلط فيه وتتنابذ النصائح العلمية مع الإرشادات الروحية.
ليس من الإنصاف تحميل رجال الدين ما لا يستطيعون احتماله معرفياً، فالظواهر الاجتماعية من بيولوجية ونفسية وفلكلورية وإبداعية، هي ظواهر دنيوية ينتجها ذلك الاحتكاك مع الدنيا ومستجداتها التي لا تنتهي (كلنا نذكر على سبيل المثال رأي رجال الدين وفتاويهم بشأن الإذاعة والتلفزيون والسينما والكثير الكثير من المنجزات الدنيوية) ،وقد تجاوزت هذه المستجدات دائماً وعلى طول الخط رؤية رجال الدين، ولم تتأثر الأديان ولم تخرب الدنيا.
مجلة قلم رصاص الثقافية