الرئيسية » ممحاة » الجروح الثقافية

الجروح الثقافية

محمد العباس  |

المثقف كائن نرجسي بطبعه. وكما يختزن في داخله شحنات من الوعي يحتقن بركام هائل من الأوهام، حيث يعتقد بأنه يحتل مكانة عالية عند المثقفين وعند غير المهتمين بالثقافة، ويتوهم أنهم ينظرون إليه كمخلوق استثنائي يُختلف به وعليه، ولذلك يُفاجأ حتى في أوساط الفئة المثقفة، بأنه في معظم الأحيان خارج حساباتهم. وهذا الصنف من المثقفين هو الذي يكون عُرضة للانجراح الدائم، فعندما يحضر أي مناسبة يتوقع أن يُحجز له كرسيه في المقاعد الأمامية، إلى جانب الوجهاء وكبار المسؤولين. وعندما لا يجد له مكاناً مخصصاً في المقدمة تُصاب ذاته المتعالية بآلام نفسية عميقة، لأنه لم يُصنّف في خانة الشخصيات المهمة، وبالتالي لن يكون هدفاً لنظرات الإعجاب، وعدسات المصورين، ولن يحظ بفرصة تسجيل اسمه في نادي التميز الثقافي، وأن المقاعد الخلفية، حيث العتمة وغياب الأضواء، هي محله وقدره الذي لا يمكنه الفرار منه.
هذا المثقف المهجوس بأهميته هو الأكثر قابلية للانجراح، فهو عندما يقرأ خبراً عن مناسبة ثقافية ولا يجد اسمه موجوداً ضمن المدعوين، تنتابه غضبة تكفي لنسف المشهد الثقافي على رأس الجميع، وإعلان كفره بالثقافة لأنه يرى نفسه الأحق دائماً بالحضور والتمثيل والتكريم، ولذلك يتصور أن إغفال اسمه يشكل إهانة لا تغتفر من قبل القائمين على المناسبة، وهو إحساس مرضي تتبدى أعراضه من خلال ما يدلي به من تصريحات احتجاجية لا تمت للثقافة بصلة، بقدر ما تعكس تأثره الشخصي بسبب تجاهله، تماماً كما يحدث عندما لا توجه له دعوة للمشاركة في ملتقى ثقافي، أو عندما لا يُرشح كعضو في لجنة أو هيئة تحكيم، وحين يطالع أسماء المكرمين أو الفائزين بالجوائز فلا يرد اسمه في أي قائمة من تلك القوائم، حيث تتبدى له كل تلك اللامبالاة بوجوده في صورة مؤامرة تحاك ضده، وأن هناك من يعمل لإخراجه من المشهد.
إنه مثقف يعيش أزمة لا ثقافية، بل أزمة الصراع مع الاستحقاقات والامتيازات، ولذلك يُلاحظ أنه يعيش دائماً حالة من التوتر مع القائمين على معارض الكتاب، والمسؤولين عن انتقاء لجان التحكيم، ومنظمي المناسبات المهرجانية، وحتى مع الجمهور الذي لا يعرفه ولا يلتفت إلى وجوده في أي مناسبة وهكذا. ومهما حاول إبداء الترفُّع على الجوائز والدعوات والملتقيات، تظهر على خطابه آثار جرحه النرجسي، حيث يكثر من الطرق على كونه الكائن المحكوم عليه بالبقاء في الظل، وهو مآل يولّد لديه الشعور بالاضطهاد، خصوصاً عندما يطالع مجموعة من الأسماء يتكرر حضورها في كل المحافل، وحينها يدخل في دوامة المقارنة الشخصية بين ما يعتقده عن نفسه مقابل ما يضمره إزاء أولئك الذين يراهم أقل منه خبرة ومعرفة ومكانة علمية، وكأن نفسيته لا تتقبل أي نشاط ثقافي لا يكون هو أحد الحاضرين فيه.
ولأنه يحسب تاريخه بعدد الملتقيات والجوائز والتكريمات التي ينالها، ويقيس نجاحه الثقافي بالمهرجانات التي يُستضاف فيها، تكون هذه المدارات هي شغله الشاغل، وعلى هذا الأساس يشكل حضوره ويبعث إشاراته بشكل متواصل، فهو يكيل المديح لشخصيات قد تلتفت إليه لحظة تقديم الدعوات، ويشيد بنشاطات عادية جداً أملاً في أن يكون مشرفاً عليها، أو جزءاً منها على الأقل، ويتقرب من المسؤولين على المطبوعات لعله يُستكتب فيها. وعندما ترتد عليه كل تلك التذلُّلات يلتف على جراحه، ويحاول أن يمثل دور المثقف المنتفض على المشهد الثقافي المنافق، فيرسم لنفسه صورة البطل الجريح المطعون بيأسه من إصلاح وتثوير المثقفين، كأن يتبنى – زوراً وتمويهاً – خطاب إدوارد سعيد القائل بأن مهمة المثقف إزعاج السلطة، حيث يطبق المقولة بشكل مغلوط، فهو يزعج السلطة بمطالبه الشخصية وليس من منطلق المناقدة الحقوقية.
من السهل التقاط أعراض الانجراح عند هذا الطراز من المثقفين، فهو شديد الحماس للحديث عن خراب الحال الثقافي بسبب المحسوبيات، وقليل الكلام عن القضايا المعرفية والفنية والأدبية، سواء في وسائل الإعلام أو في أحاديثه البينية، ولديه ذاكرة قوية تؤرشف كل القضايا التي تفجرت حول الاستحقاقات الثقافية، وبمقدوره استدعاء مجمل الحوادث التي تم فيها تغليب فوز أحد الكُتّاب، دون وجه حق، أو اختيار كاتب للجنة ثقافية لا يستحقها وهكذا. فذلك هو وقوده للحديث الدائم حول اختلال معادلة الحق الثقافي، ولذلك يبدو صيداً سهلاً، أو ضيفاً دائماً لدى الإعلاميين عند حاجتهم لمتحدث حول هذه الأمور المستهلكة، حيث يتلذذ بعرض ذاته الجريحة بمازوخية طافحة من وراء مساجلات باهتة من الوجهة الموضوعية، وهو أداء تكراري يجعل من جروحه الثقافية غير قابلة للالتئام. كما يستظهر صورته كشهيد حي لمشهد ثقافي ميت.
كل المثقفين خونة ومرتزقة في تصوره، وهو وحده المعافى من النرجسية والتشاوف، بل الناجي الوحيد من إثم المؤسسة. وعلى هذا الأساس يختصر إطلالاته الثقافية ويرسم معالم إسهاماته، فهو محارب ومضطهد ومهمّش، ولذلك يبرع في تأسيس حزب المجروحين ثقافياً، أولئك الذين يرون أن المشهد الثقافي غنيمة، فإذا عجزوا عن اغتنام ما يرضي غرورهم، أحالوه إلى مأتم، من خلال رثائيات بالية، ظاهرها الرغبة في تنشيط الفعل الثقافي، وباطنها الطمع في المنصب والوجاهة والمغانم، فهو الفارس الذي يثير الغبار دائماً في معركة الاستحقاقات المادية والوجاهية، وهو الغائب دائماً عن أي معركة ثقافية ذات طابع فكري أو أدبي، وهذا ما يختزنه تاريخه النضالي من أجل الثقافة، إذ لا تبدو روحه مدعوكة بفتيل المعارك الأخلاقية والجمالية والمعرفية بقدر ما تبدو نواياه الاستئثارية طافحة في كل ما يتلفظ به.
للمثقف المجروح بالمطامع المستعصية تاريخه العيادي، وأي اقتراب من عالمه سيفصح عن كائن مأزوم وتأزيمي في آن، حيث يمكن التقاط أول أعراض خوفه من الانجراح في إصراره على إلصاق اسمه بلقب علمي أو إبداعي، وعدم التسامح مع من يسلبه تاج إحساسه بالتفوق والاستثناء، ولأنه يخشى من فكرة أن يُطوى في النسيان، يحاول دائماً التذكير بوجوده، والتأكيد على أهميته، من خلال إصراره على دس نفسه في مساقط الضوء، وإحاطة ذاته بالألقاب، وإثارة الضجيج والشائعات حول أي حدث ثقافي يتجاوزه، حتى إن اضطر إلى تأليف وقائع لم تحدث، مع اعتقاد يقيني في داخله بأن ما يبديه من تبرمات يجعله في قائمة منتجي المعرفة، وأن احتجاجاته التي يفتعلها ويعيش بطولاتها على هامش الثقافة هي جوهر الثقافة، حيث تشكل تلك الأوهام الجانب الأكبر من شخصيته، ولذلك يبدو على الدوام مجروحاً بالعجز عن الحضور.

القدس العربي  | موقع قلم رصاص الثقافي

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *