الرئيسية » رصاص خشن » اللاوعي واللاواقع يجتمعان معاً في رواية « الوشم الأبيض »

اللاوعي واللاواقع يجتمعان معاً في رواية « الوشم الأبيض »

لؤلؤة أبو رمضان   |

تترجم رواية (الوشم الأبيض) للأديب المصري د. أسامة علام،  موقف الأديب الفكري من الحياة ولا نستطيع أن نقول هنا – وفي هذه الرواية بالذات – أن فظاعة عالم الواقع تُربك السرد لأنها تبعده عن ميدان التأليف الخيالي, فقد أعلن الروائي الفرنسي (فرانسوا مورياك) في كتابه النقدي (الروائي وشخوصه) أنه سينقطع عن كتابة الرواية لأن فظاعة عالم الواقع تطرده من ميدان التأليف الخيالي، لكن هنا في رواية (الوشم الأبيض) تُعنى كثيراً بإقامة عالم روائي مُتخيل مرتبط بالواقع الذي لابد أن يرتبط به بطريقة فنية غير معتاد عليها في أدبنا العربي الحديث، ليكشف لنا في المقابل عن وعي بموقف الأديب من المجتمع لان فردية الاديب لا يتحقق إلا في  وجوده مع المجموعة.

بين الواقع والخيال

 الأحداث في رواية (الوشم الأبيض) القصصية  نتتبعها من بدايتها السردية التاريخية  ومن خلال كتب التاريخ التي تذكر تلك الرحلة المشؤومة التي لم تصل أبداً  ثم نتعقب مراحل نموها وتغيراتها المعقدة اللذيذة، لتصل بنا في النهاية إلى نتائج تتفق مع مايجول في نفس الأديب من وقائع تجسيد معاني العواطف الإنسانية السلبية كالحزن والكراهية والندم والجنون، بأسلوب وصفي مجسّد على شكل إنسان يكرر الندم، وفي أثناء نمو الأحداث لا يفوت الأديب إلقاء الضوء على الملابسات التي أدت لوقوع هذا أو ذاك، كل ذلك من خلال طبيب مصري كندي يعيش في مونتريال تسوقه الظروف المهنية للمتابعة مريض نفسي ليس كأي مريض، ( كل الأطباء الذين تابعوا حالته ماتوا ميتات وحشية مرتبطة دائما بشفاء جون سبيستان ببساطة ماتوا منتحرين).

يبرع الأديب في جمع شتات الأحداث السردية والتنسيق بينها في ترابط مسبب ومبرر منطقياً وإحكام السيطرة عليها، وخاصة أثناء معالجته لمريضه (جون سبيستان) وتعرفه على الفتاة العشرينية من أب كندي وأم افريقية، تدعى (مودبيير) طالبة في كلية الطب في (ميجيل ) لها وشم أبيض عجيب على جلدها الأسمر لأفعى تلف جسدها كشجرة.

حيوية الشخصيات

وفي هذه القصة الدرامية المليئة بالحركة والتصرفات المنطقية تارة  والخيالية تارة أخرى والتي تظهر بعفوية إنسانية  عند الشخصية الأولى والمسؤولة عن الحركة في الرواية وعن إبراز الأفكار المتلاحقة بانسياب تام، وتجسيد المعاني الإنسانية وهي شخصية البطل الأول والأخير والمتمثلة في الدكتور أشرف، فهو شخصية تُجسد قيم مجتمعه المصري الشرقي وجذوره البدوية في واحة سيوه، في أحيان عديدة  وشخصية ثانية متفاعلة  مع قيم، إنسانية أخرى وتوجهات اجتماعية غربية يقوم بها لكنها ليست متأصلة فيه كعلاقته بـ(مودبيير) صاحبة الوشم الابيض وأخذها إلى البيت في الغابة، ثم حبه وعشقه الغريب لها فيما بعد (أعادتني مودبيير إلى حزن الفطام عن الجمال بالبهجة التي تخلقها حواء منذ الأزل).

هذه الرواية السريالية البحتة، أكدت على أهمية  مهنة  الطبيب النفسي  هي من غذت هذه النوازع والإيديولوجيات العلمية والثقافية وأخرجتْ الرغائب الداخلية  من العقل الباطن لتطفو على السطح عند د. أشرف وهو في بيت (تيكانا) ليظهر صورة أخرى جميلة للعقل الباطن أوما يسمى باللاشعور عند (مود) بشكله الأقوى والذي لامجال للشك فيه، يتواجد معها وهي تُعاني ألم الحمى الشديدة في بيت الغابة.

 د. اشرف هي الشخصية الأولى والمتطورة المُهيأة للاستثارة في العواطف والانفعال، وردود فعلها الإنسانية المتوقعة وغير المتوقعة، تجعلها في صراع نفسي دائم وأحلام غريبة وهلوسات لا حد لها ومن هنا ظهرت في رواية (الوشم الأبيض) النوع الذي يُطلق علية بقصة المعادلة في الرواية – كما أسماها الناقد د.عزالدين إبراهيم في كتابه (الأدب وفنونه).

بين الحوار الرسائلي و الحوار المباشر

 والحوار هو  إعطاء مساحة للحرية لشخصيته في التعبير والنطق بطريقة غير مباشرة وذكر المسببات الأولى لكل ما جرى لتكتمل الصورة للقارىء، هي بث  لأفكار مقررة تضفي على الأحداث صفة الحياة الشرقية بحضاراتها العريقة والقديمة، وتوضيح ذلك من الأديب نفسه والذي اتخذت  منحىً مميزاً بالطريقة الرسائلية  وأعطت بدورها  قدراً من الحرية للإفصاح عن عباراتها الخاصة دون مقاطعة تُذكر نجدها تظهر  في ثلاثة الرسائل، الأولى، رسالة مركزة وصغيرة من تيكانا والدة مود، ورسالة ثانية من الدكتور البكستاني، والرسالة الأخيرة رسالة الأب التي معها تنتهي الرواية وحكايته، لنجد القدرة على الالتزام بأسلوب الحوار باللغة العربية الفصحى  السلس في القضايا المهمة  والمعاصر وتفسير المصطلاحات العلمية للقارىء كمصطلح الابيتوزيس والترجمة الحرفية العلمية للعقل الباطن الجمعي ونظرية علم النفس الجمعي وذكر مؤلفه عالم النفس السويسري (كارل جوستاف يونج).

أما الحوار  المباشر الناجح بين شخصية البطل وكل الشخصيات الأخرى ما هو إلا استشعار بأهمية الموضوع المطروح ودليل على توفر هذا الكم الكبيرمن الثقافة واللغة عند الأديب خاصة حين نقلَ مشاعره  في قصة من الخيال، ونفاذه لعمق الحدث من خلال اختمار ما يراد طرحه على القارىء من عقله وشعوره، كما حدث مع الشخصيات الأخرى الأجنية الكندية،  أو حتى أثناء حديثه مع صديقه المصري (فوزي مختار) وشرحه لفكرة تناسخ الأرواح. وتكرار للفظة الإندهاش والدهشة والدهشة أكثر من ثلاث عشرة مَرة جاءت بأشكالها المتباينة جمال يبرهن معه الإندهاش لما يتوالى علينا من آلام ومن أحزان.

وإذا حدث واستخدمت العامية فهي من أجل إحداث هذا التجاوب التضامني مع الشخصيات الأخرى كشخصية الدكتورة (هناء)  لإقناع القارىء من ناحية وإضفاء نوعاً هاماً من الواقعية الكلامية المحسوسة من ناحية أخرى على العمل الأدبي.

كشخصية الدكتورة (هناء) لإقناع القارىء من ناحية وإضفاء نوعاً هاماً من الواقعية الكلامية المحسوسة من ناحية أخرى على العمل الأدبي.

 سلفادور دالي  في الرواية

تكرر اسم الفنان سلفادور دالي في رواية (الوشم الأبيض) وقت الزيارة الأولى لبيت مودبيير الشخصية الثانية والمهمة أيضاً، ثم إهداء (كرما ) والد مود للوحة (إصرار الذاكرة) للدكتور أشرف والتي تحتوي على ثلاث ساعات منصهرة، وتفسيره لرمزية هذا الانصهار في الرواية وربطه بالوشم، وتكراره و للمرة الثالثة في الصفحات النهائية للرواية عند خاصة عند رؤية الفيلم الصامت (الكلب الأندلسي) لدالي والتشابه الكبير والمرعب بين الفيلم وبين كل شخصيات القصة (الوشم الأبيض) دون استثناء لهذا نستنتج أن الرواية (الوشم الأبيض) سريالية التوجه والانتماء، فهي من ينتمي إلى حركة التذمر والسخط والاحتجاج على آلية الحياة الحديثة والفزع من خنق حرية الفرد. وتداعي لوحات دالي في الرواية ألزمت الأديب (أسامة علام) بذكر قوة لوحة (الصرخة) للفنان  النرويجي (مونش) وقت حدوث الفاجعة غير المتوقعة من د. أشرف وهي وفاة (مود) حبيبته وأن صُراخ اللوحة الصامته سرق صوته وقلب نفسيته رأساً على عقب.   

الوشم الأبيض هي روايته الخامسة بعد (تولوز، الاختفاء العجيب لرجل مدهش، وواحة الزهور السوداء، وقهوة  صباحية في مقهى باريسي).

كاتبة وناقدة فلسطينية  |  خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *