د. نور الدين أعراب الطريسي |
يكتب الشاعر المغربي عبد الجواد العوفير قصيدة باذخة وشعرا احترافيا بمهارة عالية. في قصائده تقرأ معرفة شعرية وأدبية عميقة قلما وجدناها في كثير من النصوص الشعرية الحديثة. فالشاعر العوفير يبهرك بهذا المخزون العجيب الذي يتسلل من قصائده، والذي يدل على العمق المعرفي والشعري والثقافي الذي يملكه الرجل، وعلى اطلاعه الواسع على المدارس والتيارات الشعرية الحديثة (الرمزية، السوريالية، الشعر الحديث…). ويشدك شدا إلى عالمه الشعري الساحر، ويجذبك جذبا إلى متاهته وتضاريسه الوعرة، فتجد نفسك مغرما بالغوص في أعماقه الواسعة وصوره البديعة الرائعة. يلمح للقارئ من بعيد ولا يصرح، في لغة شفافة، بمعجم حديث وبسيط ومتداول، لكنه عميق وملغز، وصورة شعرية قوامها الغموض الفني والتجريد ولكنه غموض دال يستوعب طبيعة الصورة الإشارية الرمزية القائمة في الشعر الحديث، وهي الصورة – الرؤيا، بنمط خاص من البناء الفني القائم على المزج بين المتناقضات والتوحيد فيما بينها من داخل الرؤيا الشعرية، التي لا تتأسس على الأقيسة المنطقية والمحافظة على الحدود والحواجز الموجودة بين الأشياء في العالم الخارجي كما نجد ذلك في نمط الصورة – الوثيقة.
“شعرية العزلة والتجريد” رأيته مدخلا مناسبا لقراءة نقدية، من زاوية معينة، تروم اكتشاف بعض ما توحي به سطور هذا الديوان العميق، إيمانا من الناقد بأن القصيدة تقول ما لا تكتبه، وتكتب ما لا تقوله، بحسب ما يذهب إليه أمبرتو إكو وبول ريكور وريتشاردز وغيرهم من نقاد السيميائيات المعاصرة وتحليل الخطاب.
إن من يتأمل ديوان “راعي الفراغ” لعبد الجواد العوفير، وهو يقرأ سطوره بتمعن وتفحص وخبرة واستكشاف، سيلتقط مجموعة من الدوال الشعرية، التي تحيل على خيط ناظم يجمعهما ويوحدهما، فدال العزلة ومدلولها ينتشر كثيرا عبر ثنايا الديوان، من بدايته إلى نهايته، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن الشاعر كان محاصرا بالعزلة، محكوما بها، مقيدا بسلاسلها، إذا بدأنا بعتبة العنوان “راعي الفراغ” نلمح بوضوح هذا المعنى: راعي = اسم فاعل نكرة يدل على شخص معين يرعى، هو الشاعر نفسه. الفراغ = كلمة تدل على هذه العزلة القاتلة والوحدة… وبهذا يكون نفسه معادلاً دلالياً للديوان بأكمله، وعتبته دالة على المجموع، كما يذهب إلى ذلك الناقد “جيرار جنيت”.
أما التجريد، فنقصد به توظيف نوع خاص من الصور الشعرية التي وصلت أقصى درجات الغموض الفني الدال والعميق والممتع، وهذا ما نجده ونلمسه بوضوح في ثنايا ونصوص هذا الديوان، نجد قصيدة كاملة عنوانها “المنعزلون” يقول فيها الشاعر:
المنعزلون في أبراج ذواتهم العالية
ينزلون في الصبحيات الجميلة الباردة
إلى الشواطئ
يجمعون الخريف
في سلال من القش
ويعودون
وسلالهم ملآنة بالحب
نراهم في الليل يخلقون نساء
يسمونهن: نساء الخريف الباهتات
يغلق أهل المدينة أبوابهم
كي يمروا بخفة الريح
وتغلق النساء قلوبهن
كي لا تتسلل العزلة
وهناك قصيدة أخرى جميلة بعنوان “حصانك يعدو نحوي يا رينية شار”، تقول:
لا تجبر الحقول على التوحد
مع صمتك النافذة مفتوحة قليلا
لأن هناك هواء شيخا ينتظر عزاءك
وفي قصيدة “شبقيات الأحلام السحيقة”، نقرأ ما يلي:
وسيقدن الأعمى على عصى تتمايل
على موسيقى اللذة
وسيفتحن الباب للعزلة
كي تزور أفكارنا القديمة.
إنها العزلة نفسها تصادفنا في قصيدة: الريح صمت يرتدي العاصفة:
كنت جالسا وحدك
في المقهى الكل كان يمر فيك
وحدي مددت لك يدي
وشربنا القهوة
وطلبنا المزيد
أنا مثلك أيها الريح
أكل و لا أستريح
كما أن العزلة تغدو مرادفاً حميماً للوحدة في قصيدة “العنكبوت”:
وهذا العنكبوت الوديع في زاوية الغرفة
ينسج خيوطه على وحدتي
ويلقي التحية على العزلة بقبعتها السوداء ووجهها المبهم
دخلت من باب تركته للريح والأشباح.
أيها الباب كم تركتك وحيداً
تلتهم العاصفة …
إن هذه الأسطر الشعرية كما – هو جلي
واضح تضع تيمة العزلة والوحدة في أقصى درجات التجديد الشعري والتصوير الشعري العميق، عبر تقنيات معينة للصورة الشعرية المبدعة وفي مقدمتها الاستعارة “العزلة قبعة سوداء..” والأنسنة والتشخيص بواسطة الاستعارة المكنية الرائعة(الباب يلتهم العاصفة…) ثم بواسطة متخيل فني راقي هو متخيل العنكبوت بكل إيحاءاته الشعرية وأبعاده الدلالية وتداعياته الفنية. ثم نقرأ من قصيدة أخرى بعنوان الديوان نفسه “راعي الفراغ” :
أقود قطعانا من الفراغ
إلى مرعى روحي الخصيب
أنا من سأقود الفراغ إلى حتفه
ويتجدد الفراغ والوحدة مرة أخرى في قصيدة “مقعد متعب على البحر”:
التي نقرأ في مطلعها:
تجلس على مقعدك الوثير
وحيداً بلا ذاكرة.
ويظل الفراغ مردفا للعزلة والغياب والعدمية في أكثر من نص شعري داخل الديوان، بصفته معادلا موضوعيا ودلاليا لها، يدل على ذلك هذا التكرار المعجمي للكلمة في عناوين ونصوص بعينها. “باب في الفراغ” نقرأ منها:
وأسقط في فراغ
أكثر حنوا من امرأة
تارة أسميها عزلة
وتارة موتاً
ويبدو من خلال هذه الأسطر الشعرية أن الشاعر لا يتبرم من هذا الفراغ أو يضجر منه، بل يتخذ منه حبيباً مؤنساً يحن عليه أكثر من المرأة وعزلة ممتعة، وتتجدد العزلة في شكل شعري آخر بقصيدة رائعة وممتعة، تمتح من متخيل شعري له الألق والبهاء هو متخيل القطار في قصيدة “قطار السماوات المتعب” ص(99)، التي يقول الشاعر في نهايتها:
عذرا أيها القطار الطيب
لأنني لم آت لموعدك
كما اتفقنا،
فقد صرت قطارا بدوري
وسافرت وحدي.
إضافة إلى هذا المتخيل الشعري الجميل الذي يوظفه الشاعر في هذه القصيدة، وهو اقتران العزلة والوحدة والفراغ بالقطار والسفر وتغيير المحطات… فنحن نلمس أيضا اشتغالا فنيا بالغ الدقة والإتقان والاحتراف على الصورة الشعرية إلى درجة كبرى من التجديد والغموض الفني الرائع، الدال والباني والمليء بالإيحاءات الفنية والتصويرية الجذابة والعميقة.
وفي ختام هذه الدراسة الموجزة والمختصرة لديوان من أهم الدواوين الشعرية المغربية المعاصرة، ولشاعر من أهم الأصوات تجربة وإشعاعا على الصعيدين الوطني والعربي، أعيد ما بدأت به هذه القراءة فأقول إن سمة التجديد الفني والغموض الدال في الصورة ثم تيمة العزلة، يعدان مدخلان أساسيان للدخول إلى عالم هذه التجربة الشعرية في هذا الديوان الشعري المتميز “راعي الفراغ”.
شاعر و ناقد مغربي | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية