الرئيسية » رصاص حي » اللاجئ الذي خاض معارك الطريق ونجا مرتين .. هل وصل حقاً ؟ !

اللاجئ الذي خاض معارك الطريق ونجا مرتين .. هل وصل حقاً ؟ !

خاص قلم رصاص ـ النمسا  |

عندما تكون الأختام على صدره مثل « جنرال » …!

بعد أن يقطع اللاجئ آلاف الكيلو مترات، ويقطع البحر في رحلة متخمة بالمخاطر، فلا يكاد يصّدق أنه نجا من كارثة كاد أن يلقى حتفه فيها، حتى يجد نفسه في دوامة كارثة أخرى أدقّ رقبة وأبشع مصير، وهكذا إلى المحطة الأخيرة، التي يجتاز فيها حاجز الرعب والخوف والمصير المجهول، حيث يلتقط اللاجئ هنا أنفاسه ويتنفس الصعداء، في لحظات خبرها أيضاً وعاشها، بعد أن قطع حدود بلاده التي تعيش ويلات طاحنة وكوارث؛ بلاده التي كان يشعر خلالها أن كل يوم هو يومه الأخير في هذه الحياة، والحديث هنا عن اللاجئين الذي نجحوا في الوصول إلى أوروبا بعد أن خبروا، وسمعوا، وكانوا شهود عيان على أقران لهم فقدوا حياتهم على الطريق، وغالباً ما حدث ذلك في البحر الذي ابتعلت ألسنة أمواجه المجنونة أرواحاً كانت  هربت من جحيم الحرب توقاً للنجاة، فكان هروباً من جحيم إلى جحيم!

كوابيس .. واجترار

لكن ماذا عن الذين “نجحوا في الوصول”؟!، أو الذين “وصلوا”؟!، وأية محطات عليهم أن يجتازوها أيضاً بوصولهم أو نجاتهم؟!، وهل نجوا حقاً؟! وكيف يجتازون تلك المحطات؟! وبأية آليات ومشقات؟! هذا إن كان وصولهم حقيقياً وكاملاً، إلى بيئة يبدو فيها كل شيء غريباً، وجديداً، وغامضاً، وسط صراعات الإنخراط بالحياة الجديدة، رغم المصاعب والمشقات، وبين مآلات التقوقع على الذات المهزومة، والإنكفاء إلى الماضي، واجتراره ذكريات مؤلمة، وأخرى حنونة في تصادمات الأحلام والكوابيس، وأنت تعيش في مجتمعات تفتح لك أسواراً وبوابات وتغلق أخرى، مجتمعات تنقسم بين الـ (نعم) لك و الـ (لا) ضدك، في ذات الوقت الذي تنقسم فيه أنت ذاتك كـ لاجىء بينك وبين حالك قولاً وسلوكاً، تنقسم بين الـ (نعم) والـ (لا)..

الشيفرة .. والوصول المبتور

هذا ما حاول عرض مسرحي ـ شهدته مؤخراً إحدى خشبات النمسا العليا ـ الوقوف عليه، وفك شيفراته المّعقدة، وتلمّس تداعياته الحارة كـ “ثيمة” على أكثر من صعيد وجانب، والوقوف على “الوصول” ومتطلباته وشروطه، وفيما إذا كان هذا “الوصول” منقوصاً ـ 

مبتوراً، أو كليّاً وهذا الأخيرعلى الأرجح لا وجود له على أرض واقع اللجووء وتجاربه، وإن حدث فيحتاج إلى سنوات طوال، وتمرينات ذهنية ونفسية عالية الحساسية والتركيز.

 العرض حمل عنوان”الوصول”، ولا يعني هنا الوصول من محطة إلى أخرى مجرد الوصول، بقدر ما يعني القبض على الحالة أو الدلالة والمعنى في مكان أو حيّز، لا تشعر به أنك غريباً، أو مغايراً، أو ملفوظاً، أو الوصول إيجابياً إلى مسار أو حالة تعيشها وتتعايش معها وتعرف معالمها، بمعنى أن تكون حاضراً هنا والآن، وإن لم تمتلك بعد كل مقوّمات الوصول الكامل.

الخوف .. والصدمات

فكرة العرض ورؤيته لـ علي الحسن الكاتب السوري من معايشات تجربته كـ لاجئ في النمسا، بالتشارك مع أوتا باور النمساوية التي تشرف على مادة المسرح في إحدى المدارس الثانوية وكانت قدمت بالتعاون مع سيلكا غرابينغر عرضين مسرحيين: “الحرب المتعبة” و”أنقذني”، أما الإخراج لهذا العرض فجاء أيضاً بإدارة غرابينغر مصممة الرقص، الدراماتورج والمخرجة التي سبق وقدمت العديد من الأعمال المسرحية منها مثلاً: “على الحدود”، “محاولة شخص”، “هجرة”، “عزيزي”، “التفاني” والعديد غيرها..

تبدأ أحداث المسرحية منذ لحظة وصول مجموعة من اللاجئين متعبين ومنهكين من الطريق الذي كان مفروشاً بالخوف والأسئلة ممزوجاً للوهلة الأولى بمشاعر الفرح بـ (إنجاز الوصول)، وسرعان ما تبدأ الصدمات المتتالية؛ الصدمات التي سيعيش أجواءها  جمهور العرض ذاته في  صالة مسرح (شبيراني) الجديدة في (تروان ) التي افتتاحها قبل ثلاثة أيام من العرض بحفل غنائي كبير أحياه الشاعروالمغني الألماني المعروف قسطنطين فيكر.

الصدمات هنا في العرض تبدأ لحظة دخول الجمهور الصالة، حيث يجد الممثلين يجلسون على مقاعد الصالة، وعندما أراد الجمهور أن يتخذ أماكن له، تم منعه من قبل الممثلين أنفسهم، ما اضطر الجمهور البقاء وقوفاً طيلة العرض، حتى الدقيقة الأخيرة التي جلس بها فقط لأداء التحية؛ التحية التي كانت كبيرة لفرقة تروان المسرحية المؤلفة من خمسة عشر شاباً وشابة..

التهكم .. والانتظار

في العرض المسرحي وبلعبة ذكية وخيار من غرابينغر المخرجة، سيتحوّل الممثلين إلى موظفي استقبال ومكاتب رسمية متعددة المهام مرة، أو لاجيئن  مرة تبدو عليهم الحيرة والضياع وانتظار الإجراءات، التي لها أول ولا آخر لها، فيما تحوّل الجمهور إلى لاجئين طوال العرض، تم تقسيمهم في ثلاث مجموعات في فضاء الصالة للأختام والأوراق الرسمية، وانتظار إنجاز فقرات ولوحات العرض والإنتهاء منها؛ مجموعات يتناوب للوقوف أمامها خمسة ممثلين؛ خمسة ممثلين في عيون الجمهور، وما إن ينهوا لوحات أو مشاهد، حتى يتركون الحيز إلى خمسة ممثلين آخرين، في خفة ورشاقة نجح فيها ممثلون شاب في أداء أزعج الجمهور، آلمه، وأضحكه، وأحياناً أبكاه..

 هكذا إذن يعيش الجمهور شعور ومعاناة اللاجئين حيث يجد نفسه تارة وتبعاً لمجريات العرض في بادرة للمساعدة والتعاطف، وتارة أخرى فيما يشبه السجن، ولا يسلم الجمهور اللاجئ إلى العرض أحياناً من تهكم ومضايقات الممثلين أنفسهم، عدا عن الإنتظارات الطويلة، والتعليمات التي لا تنتهي، معايشات سيعيشها الجمهور ابتداء معاناة التجمعات الكبيرة في الأيام الأولى، مروراً بفترة السكن، ثم معاهد اللغة، ومكاتب العمل، ودورات الإندماج، إذ يدور اللاجئ في حلقة مفرغة، وفي دوامة من الأسئلة والوصايا والنصائح.

دوّامة .. وهروب

وصحيح أن اللاجئ يلقى احتضاناً ورعاية دعماً ومساعدات ومساندات شتّى، لكنه يفتقد بالوقت ذاته إلى أشكال أخرى غير متاحة أحياناً، وهو ذاته اللاجئ الذي يبحث عن أختام تؤكد وصوله وأنه هنا؛ الأختام التي تأتي بمثابة أوسمة على صدر اللاجئ الجنرال الذي خاض حروب اللجوء والهروب من الحروب، في وقت لا يعرف على أي جانبيه يميل في معممعة الأحلام والكوابيس، واستعراض ألبومات الصور وما تبقى معه من رائحة البلاد، في وقت مال فيه زمان الحروب والإقتتالات وتداعياتها، بأفظع وأبشع أنواعها، لتحرمه من حقوقه الإنسانية التي يجد وجوهاً له في بلاد اللجوء، وقد حرمته الحالة المأساوية في بلاده ممن تبقى من أهله، وعائلته، وجيرانه، وذكرياته، والراوائح، والأمكنة التي ظلت حاضرة في ذهنه.

نمر .. حصان وأشواك

العرض يطل بوفرة ووخم على ما تتناقله الصحف والمجلات والمواقع من عناوين لقصص ومقالات عن أو حول اللاجئين، ودوّامات الأخبار التي تأكل وتشرب معهم مثلما تفعل الأخبار القادمة من البلدان الأم، ويستعيد  العرض أيضاً أجواء من عوالم بريخت وكافكا وريلكا، حيث يركز بريخت على الصمت المطبق تجاه ما يحدث من كوارث وتجاهلها كما لو لم تكن، والإنصراف إلى الهم اليومي وتفاصيله التي تبدو وكأنها أكبر المصائب، وفي هذه الإضاءة يشير العرض إلى الجانب السياسي أيضاً وكيف أن الدول والمجتمعات تشيح بنظرها عن الكوارث والحروب والموت، وتهتم بالعادي واليومي في حياتها واهتماماتها.

أما الجانب الذي استحضره العرض من الطقوسية الكافكاوية هو هم الرحيل والإنصراف عن البؤس، ولا يهم هنا كيف وإلى أين؟!! المهم هو أن يسرج المرء حصانه وينصرف إلى غير رجعه، وهذا هو حال اللاجئ الذي يفكر أن يهجر بلده تاركاً وراءه كل شيء في هم الخلاص والنجاة، وليس مهماً أياً كانت وجهته، في حين يحضر ريلكا في العرض في الموت الكبير والعجز إزاء ما يحدث، كأن تكون مثلاً نمراً في قفص وعينك على غضبان الحديد، فلا تستطيع أن تفل الحديد رغم قوة العزيمة لديك، ولا تستطيع كـ نمر أن تفعل شيئاً، وأنت القوي الذي يرى بعينه وقلبه، حيث يكون العجز تاماً ومؤلماً عندما لا يمكنك استعمال ما تملك، إلا أن ترتدّ إلى قلبك في معاناة تتضاعف، وتزداد مع الوقت وتفاقم الكوارث، إنه إذاً الموت البطيء والكبير. اللاجئ هرب لسبب أو لآخرمن بلده لينجو من حكم إعدام وقتل وشيك، ليجد الحكم مخففّاً إلى أشغال شاقة مؤبّدة، ذلك أن طريق اللجوء ليس مفروشاً بالورود ولا معبّدا برفاهية، لأن أشكالاً أخرى من أشواك القهر تبقى جاثمة على صدر أيامه المتبقية، قهر متعدد الوجوه والكدمات يعرفها عن كثب من عاش ويعيش بصفته لاجئاً..!!

خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

هل زعزعت وسائل التواصل مكانة الكتاب المقروء أم عززتها؟

صارت التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل، تيك توك، يوتيوب، فيس بوك وغيرها مصدرا رئيسيا للمعلومات والأخبار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *