نبهني مقال للأستاذ سيد رصاص إلى “تلك الثنائية التقسيمية بين العالمانية والمدنية” التي يتشارك جلنا في تجاهلها أو جهلها، إتكاء على الفارق الشفاهي بين اللفظتين متدبرين، كمرجع، نماذجاً تبسيطية من الواقع المزري الذي هو انعكاس للحالة الثقافية المتداولة، كي نحدد القصد من هذين اللفظتين اللتان تتطابقان في إنتاجهما لتصورات معرفية واضحة ومعلنة وممارسة في الواقع، حيث تتهافت كلمة “مدنية” لدينا إلى تصور موارب وتدليسي هو اللاعسكرية على الرغم من وضوح مقصدها إلى اللادينية (الائكية)، وبمعنى محدد هو فصل الدين عن الدولة والذي يعني بشكل أكثر تحديداً السياسة والقضاء.
ربما كان ذكر هاتين اللفظتين / المفهومين تصلحان كمثال على كمية ونوعية الجهل المعرفي بالمصطلح، الذي هو منتوج معرفي حديث وحداثي، الذي يتضمن تفسيرات وتأويلات شفاهية لغوية على الطريقة التقليدية، حيث يتم رد أي نطق إلى المصدر اللغوي ومن ثم تصريفه واستعمالة على نية أنه أقرب ما يكون من المقصود المخمن، حيث تحاصر الكلمة بصوتياتها تاركة المعنى ومن ثم التصور في غياهب التجريب، فإذا أدى هذا التجريب إلى حرب أهلية مثلاً، فلا بأس، فلنعد الكرّة لأن الخطأ في التطبيق وليس في الفكر.
لا أريد تحميل اللغة مسؤلية جهل الجاهلينا، فمن يحدد قيمة اللغة هم ناطقيها وكاتبيها، وليس لأية لغة من معنى تفاهمي خارج ما تشرحه قواميسها ومعاجمها، وليس لإية لغة من جماليات تفضيلية سوى ما يصنعه القول /النص/ التصور، فاللغة مرهونة بقائلها ومتلقيها، وما صوتياتها إلا رموزاً وضعت لإستثارة هذا التصور أو ذاك، حيث تتفارق عند ذلك التصوارت ضمن اللغة الواحدة، فما بالنا ما بين اللغات الأرضية الدنيوية المتعددة؟
كما لا أريد أن أعقد مقارنات حول الفارق بين مصطلحات مترجمة إلى العربية وبين معناها (مقصدها) الأصلي فهذه الألفاظ / المصطلحات كثيرة جداً لدرجة أنها تمثل قاموساً جديداً يحاول التوليف لغوياً فقط بين مسميات نواتج العمليات المعرفية الحديثة وبين مشابهاتها في اللغة، لتصبح المصطلحات في أحسن أحوالها تقريبية وفي عموم حالاتها تدليسية، وليس من مثال أوضح من مفردة العالمانية (العلمانية) التي يتم تداولها في العموم الثقافي كلفظة مشتقة عن العلم حيث تترك تصوراً عن عبادته ما يعني اعتماده في السياسة والتشريع، بينما هي في الواقع لفظة مشتقة من العالم، الدنيا، التي تقع خارج دور العبادة بمعنى فصل الدين عن الدولة.
في واقع الأمر لا يأتي اجتراح المصطلح إلا في نهاية العملية التفكيرية التي تتضمن الجدل والتفاعل والمماحكة والتجريب ومن ثم التطبيق، وما استخدامه كبضاعة جاهزة إلا تتمة لعملية التدليس اللغوية التي تطلق شعارات تهويمية انطلاقاً من مقدرتها اللفظية على تكييف المصطلح، وهذا التكييف ليس بسيطاً أو عابراً، بل هو مفترق يقود إلى ما لا يقصده المصطلح أو ربما عكسه تماماً، فالدولة اللاعسكرية هي غير الدولة اللادينية التي يقصدها المصطلح “الدولة المدنية”، وهي وأيضاً غير الدولة المدينية التي يمكن للفظة أن تحتويها، وإذا كان لا بد من استخدامها في صياغة رؤانا السياسية والإجتماعية وغيرها، لا بد لنا أن نكون متفهمين لاستحقاقاتها العملية، فالذي يريد أن يصنع سيارة أو صاروخاً عليه أخذ العلم من الذين سبقوه إلى صناعة السيارة أو الصاروخ، يأخذه على حقيقته ودقته ومن ثم ينطلق في تجربته وتطويرها، أما أن أخذ علم صناعة السيارة من
أجل صناعة طنبر أوفي أحسن الأحوال طرطيرة، فليس هناك خطأ ما في مكان ما، وإنما هنالك عطب مستحكم بصاحبه الذي لا ولن يرضى عن الهوان بديلاً.
للوصول إلى الأنموذج الناجح المجرب المنافس، لا يعتمد على جرس الألفاظ ورنينها وطلاوتها، كما أن مقاربة المصطلحات كألفاظ مسبوقة في اللغة ( كرد تعريف المثقف الى ثقف الرمح ودببه) لا يعني بتاتاً تمثلها وممارستها، فالسبق هنا ليس ذي قيمة فعلية أو عملية، فالمواد الأولية المعرفية التي يجب حشدها للوصول إلى الأنموذج الأنجح مختلفة تماماً عما لدينا وإن كان ما لدينا يمكن استخدامه على سبيل الزينة الفلكلورية لا غير، لإن المطلوب ليس فهم المصطلح فقط وإنما الموافقة على إداء استحقاقاته المعرفية أولاً، وتمثل هذه الاستحقاقات في الواقع، فالدولة المدنية، هذا إذا كانت مطلباً حقيقياً (وليس تدليسياً) كطريقة للوصول إلى الأنموذج الأنجح، وأول هذه الاستحقاقات هو الترجمة المفهومية للمصطلحات كما هي في تطبيقاتها التي آلت إليها، وليس مجرد نقل شفاهي يناسب التصورات المسبقة تصنعها اللغة، فالدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية ليست دولة بالمعنى الحديث ـ وتداول لفظة دولة عند الإشارة لهذه “الدول” لا يتعدى الفلكلور اللغوي الذي ينسحب تدليسياً على المعنى الحديث لها، حيث تتماثل في التصور الذي تصنعه اللغة بألفاظها، الدولة اليابانية أو السويسرية، مثلاً، مع الدولة الفاطمية أو الأيوبية فجميعها دول بشهادة اللغة، بغض النظر عن المعنى المعجمي التفسيري لمفردة دولة في اللغة العربية، ولربما لهذا السبب أيضاً يخلط الأداء الثقافي العام بين الدولة والحكومة والسلطات والسلطة والمؤسسات والأجهزة إلخ.
التدليس هو نفسه السذاجة من حيث النتائج، والسياسة على عكس ما يُشاع (بترجمة غير مفهومة) أنها فن الخداع والكذب والغش والفهلوة، فالسياسة بوصفها علم وفن خدمة المصالح المجتمعية، تتمتع بأرقى المواصفات الأخلاقية، وليس من اختيار السياسيين أن يكونوا على درجة عالية من المواصفات الأخلاقية، فالأمر محاسب عليه في الدولة المدنية / العالمانية، إن من خلال الديموقراطية والانتخابات جزء بسيط منها، وإن كان من خلال القوانين تتوافق عليها السلطات من أجل مراقبة ومحاسبة بعضها، حيث يبدو الفارق شاسعاً بين الدولة الفاضلة التي تتشدق بالعدل، ودولة التنمية التي تعتمد المساواة، فالأولى تقريبية في تشبهها الخلبي بالأنموذج الناجح دون دقة معرفية تذكر بحيث تصبح المعرفة الضرورية قابلة للتكييف والتزييف تعتمد علانية التعريف الأخلاقي للسياسة بوصفها فن الخداع، والثانية منضبطة وضابطة للممكنات الاجتماعية المنتجة للمصالح بعلانية تحدد المسؤولية عن الفشل والنجاح وتحاسب عليه خاضعة للعقد الاجتماعي الذي لا دولة بالمعنى الحديث من دونه.
ترى كم من المصطلحات / الشعارات المترجمة عن تجارب معرفية …. أطارت الرؤوس في بلاد العرب أوطاني؟
مجلة قلم رصاص الثقافية