سألتني إحدى الصديقات سؤالاً مُباغتاً، لم أحسب له حساباً، ما سر هذا الخيط الرفيع الذي يربطك بمدينة الرَّقَّة وقد صرت في أوروبا؟
تهربت من السؤال، أردت أن أعطي نفسي فرصة للتفكير، فمثل هذه الأسئلة التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة جداً ولا تستدعي التفكير العميق في ظاهرها إلا أنها عميقة جداً فهي تغور في الروح، وتثير اللواعج حتى أننا نشعر بالعجز شبه التام ونحن نفكر بأجوبتها.
حاولت أن أجد إجابة فيها بعض الفلسفة كأن أقول: ربما لأنني غادرتها مُجبراً ولم اختر مغادرتها بملء إرادتي، والنفس البشرية بطبيعة الحال تكره ما يُفرض عليها، ربما كانت أخف وطأة علي لو أني اخترت مغادرتها بإرادتي بحثاً عن رزق أحسن ومستقبل أفضل. يبدو الحديث شخصياً إلا أني أعتقد أنه يخص مجمل السوريين، وإن تعددت أسباب خروجهم، لكن أحداً منهم في النهاية لم يترك منزله وحياته الاجتماعية ويختار منفاه، وأنا هنا أتحدث عن الفئة التي لا ذنب لها إلا أنها كانت تعيش في بقعة جغرافية معينة أراد الساسة والعسكر والزعران والإمبرياليون والراديكاليون والمتاجرون لها أن تكون ساحة لتصفية حساباتهم وتمرير صفقاتهم على حساب دماء الأبرياء.
لم تقنع الإجابة الفلسفية صديقتي، فأردفت قائلة: هكذا فقط؟
فوجدتني أستعين بالشعر هذه المرة، وأردد على مسامعها بيت أبي تمام:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى … وحنينه أبداً لأول منزل
ضحكت صديقتي وقالت: لماذا تجاهلت البيت الذي يسبق هذا البيت، أم أنك لم تعش الحب الأول في مدينتك.
قلت يا صديقتي لكل امرئ منا في الرقة حكاية حب أول نشترك فيه جميعاً، على اختلاف انتماءاتنا وأطيافنا، نمارسه منذ طفولتنا المبكرة ثم ونحن شباباً وكذلك عندما نصير كهولاً حتى عندما نموت يكون اللقاء الأخير معه.. وهذا العشق الأول هو عشق نهر الفرات.
نعم يجمعنا عشق الفرات، نحن المُبعدين عنه رغماً عنا رحلنا بأجسادنا فقط، وبقيت أرواحنا هناك في تلك المدينة التي تكالبت عليها كل قوى الأرض ولم ينصفها أحد.
يا صديقتي كم تمنيت وأنا أرى مدينتي تستباح أن يخرج مثقف سوري أو عربي واحد ممن زاروها والتقوا بأهلها خلال العقد المنصرم ويكتب مقالاً واحداً يدافع فيه عن تلك البريئة المغتصبة، أن يشهد شهادة حق للتاريخ يخبر العالم أن في الرقة موطن الإنسان الأول، وأن أهلها أهل علم وثقافة وانفتاح على الآخر، وليسوا إرهابيين أو قتلة، وأنهم ضحايا لا جناة.
أرغب في كثير من الأحيان أن أصرخ يا صديقتي بل أن أُسمع صوتي لكل سكان الأرض وأخبرهم أني من أرض لرقة ترابها سُميت رَّقَّة، ولكرم أهلها وجودهم وحسن ضيافتهم صار اسمهم شوايا، يولمون لضيوفهم الثريد، وشيّ اللحم لهم عادة فصاروا شوايا.
نحن يا صديقتي لسنا كما تقدمنا الدراما السورية، “دراويش وع البركة” بزينا الشعبي، إلى أن رسخت في الأذهان أننا نسكن الخيام، ولسنا نعرف في الحياة غير رعي الإبل والأغنام، نحن يا صديقتي أبناء حضارة عمرها تسعة آلاف عام، لا يعرفها الجاهلون. سكتت صديقتي واسترسلت في الكتابة والدموع تغالبني وأنا استمع إلى الموليا الفراتية وأبحث بين أبياتها عن السر الذي ما زال يجعلني كلما وقفت عند النهر المجاور لبيتي في بلجيكا أصرخ اشتاقك يا فرات، وليس لنهر أن يروي ظمأ روحي غيرك يا فرات.
لذلك يا صديقتي ما يربطني بمدينتي ليس خيطاً رفيعاً إنما يربطني بها نهر، تغنى به الرب وأسماه فرات.
مجلة قلم رصاص الثقافية