أعرف أنه في حياة قادمة سأكون الابن البكر للدون إدواردو مانويل دي فرانشيسكو. المكسيكي المحترم، رائد صناعة النبيذ، المالك لأراضٍ تمتد من سانتا روزا حتى تخوم غوادالاخارا. وهذا يعني الكثير من الأراضي و كروم العنب.
بعد بلوغي السابعة عشرة بقليل سيتحدث إليّ الدون إدواردو أثناء جلوس العائلة إلى مائدة العشاء. جدّي مانويل دي فرانشيسكو، جدّتي أليخاندرا، أمّي غابرييلا، أختاي ماريا غوادالوبي وماريا ديل كارمن، وأخي الأصغر خوسيه فيرناندو. بعد أن تلا صلاةً سريعة “ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، لا تدخلنا في التجربة ونجّنا من الشرير.. آمين “فتح الدون فمه موجّهاً حديثه إليّ: “أرتورو، لقد بلغتَ السابعة عشرة وستنهي دراستك الثانوية عمّا قريب، وكما تعلم فقد رتّبت أمور التحاقك بجامعة القلب الأقدس، لكن قبل ذلك هناك أمرٌ علينا إتمامه”.
_ “ما ذلك الأمر سيّدي؟”
_ ” مارغريتا ابنة الدون أنطونيو، تذكرها صحيح ؟ “
_ ” بالكاد “
_ ” هي فتاة جميلة، متعلمة ولطيفة جدّاً، لقد تحدّثنا أنا والدون أنطونيو بشأنكما. حسنا” بنيّ حان الوقت لتتزوّج، ومارغريتا هي الفتاة المثالية لك”.
_ “شكراً سيّدي، لديّ مشاريع أخرى والزواج ليس من ضمنها”
_ “أرتوروو”. شهقت أمي مصعوقة من وقاحة ردي المتهكم.
أسكتها الدون بحركة من يده واستطرد قائلاً: “الأمر مقضيّ على أيّة حال، الزواج سيتمّ الصيف المقبل، أرى أن تعتاد الفكرة و تسعد بها، في النهاية أنا أفعل ما هو لصالحك “
_ “دعني أهتمّ بما هو لصالحي”. سأقول له وأنا أرمي رغيف اللحم وأدفع بكرسيي بعيداً عن الطاولة.
أذكر أني سأغضب جدّاً وأصاب بذعرٍ شديد. لن أتزوّج بالتأكيد ليس الآن وليس بهذه الطريقة. فالدون المتعجرف لا يهمّه سوى ازدهار أعمال العائلة. الأمر الذي يضمنه تزويجي بالابنة الوحيدة للعجوز أنطونيو. أما أنا فلديّ أحلامي الرائعة التي سأسعى إليها قبل أن أتعفّن في هذا الخراء.
ولأنّ الحماقة ستبقى علامتي الفارقة في أيّة حياة عشتها. سأسرق في تلك الليلة ثلاثة بيزوات ذهبية من خزانة جابرييلا وأرمي بضعة أشياء ضرورية في حقيبة ظهر صغيرة وأهرب باتجاه تيخوانا، وفي بالي فكرة واحدة سأدخل إلى أميركا وأعيش الحلم.
حسناً ! سأنجح في اجتياز الحدود بمساعدة أحد المهرّبين المحترفين الذي تقاضى قطعتين ذهبيتين لقاء مساعدته دون أن يعلمني أنّ احتمال التعرض لإطلاق النار أثناء التسلل هو من ضمن الصفقة. لم يكن بالأمر الهام على أيّ حال، مجرد جرح سطحيّ أعلى الكتف الأيمن.
لن أكون واثقاً ممّا أريد فعله، فلا موهبة مؤكّدة لديّ يمكنني العمل على استثمارها. لكن من يدري فأنا الآن في أميركا أرض الاحتمالات. قد يتبيّن أنّي أملك ذراعاً أقوى من ذراع ميكي مانتل أو بيب روث وأصبح أسطورة البيسبول القادمة. وقد يظهر أن لي من البراعة في اللعب على الغيتار ما يجعل عظام جيمي هندريكس تطقطق في قبرها. و من يدري ربّما يرى فيّ أهم مخرجي هوليوود النسخة الجديدة لمارلون براندو. الاحتمالات الجيدة أكثر من أن تُحصى في أميركا، لذا لا شيء يدعو للقلق.
والمؤكد أيضاً أنّي قمت بأكثر ما أبرع فيه. أقحمتُ مؤخّرتي في المشكلة و الآن أعطي لنفسي كل الوقت لأجد حلّاً لها.
عن الطريق السريع باتّجاه سان دييغو أقلّتني جيني. الصهباء الجميلة، الشبقة المخمورة دائماً. اعتنت بي جيني جيّداً، نظّفتني ككلبها المدلّل وعاشرتني كحصانٍ برّي قبل أن تركل مؤخّرتي ذات يوم أثناء نوبة جنون حين اكتَشَفَتْ أنّه لم يبقَ شيء لتشربه وأنّ متجر الخمور لن يفتح قبل أربع ساعات. لم يكن ذنبي بطبيعة الحال فإدماني الكحول لن يبدأ قبل عشر سنوات قادمة. لم أنزعج فعلاً من جيني لطردها لي فقد حان الوقت للمضيّ قدماً.
لطالما أحببتُ جيني وإصرارها أنّها لم تتجاوز الثامنة والعشرين رغم أنّ أيّ مخبول سيدرك مباشرة أنّها أكبر من ذلك بعشر سنوات. لكن جيني كانت رائعة بطريقتها الخاصّة. خلال السنوات القادمة سألتقي عشرات وربّما مئات النساء، سنعيش معاً كل شيء، الحب، الجنس، خيبات الأمل، الخيانة، الحنين، الإحباط، الهوس، المزيد من الجنس، الانفصال والعودة، الخوف، الجنون، الخمر، الهدوء، الملل. لكن ليس كجيني أحد، مهووسة متوحشة، لا شيء فيها متوقع، مخيفة أحياناً، بذيئة دائماً. لا حيلة لك إن رغبَتْ بابتلاعك مع علمك أنّها قد تتقيّأك في أيّة لحظة. إن كنتَ محظوظاً جدّاً قد تحظى بامرأةٍ واحدة مثل جيني في كل حياة.
أستطيع تخيّلها الآن في غرفة طوارئ مستشفى حكومي تحتضر جرّاء نزيف معوي حاد، وحبيبتي جيني تبصق دماً وتكيل أقذع الشتائم للأطباء والممرضات الذين يحاولون مساعدتها. الحياة عادلة أحياناً، إذ لا يليق بجيني ميتةٌ أقل روعة.
سأستقرّ بعدها في إل إيه، وأتنقّل بين عدّة وظائف محترمة. قاتل عُجول في المسلخ الكبير، بائع هوت دوغ في مضمار سباق الخيل، بهلوان تثبيت العوارض المعدنية في ناطحات سحاب قيد الانشاء، غاسل أطباق في مطعم صيني حقير، بائع بطاقات يانصيب غير مرخص، شطيرة تاكو مبتسمة أمام أحد فروع تاكو بيل.
لن تكون حياةً سهلة بالتأكيد، لكنّي لن أفكر لحظة في العودة. فأنا بشكل ما أعيش حياةً تناسبني، لا أحكام نهائية أو مسبقة فيها، والأشياء هنا لا تأحذ صفة الأقدار الصمّاء، لكنّ الأهم هو يقيني بأنّي أنتظر شيئاً ما، شيئاً جيداً بالطبع. ليس كما في حيوات سابقة حيث أفضل ما تنتظره أن تتشرنق كدودة وتحلم بموت ربّما يحوّلك إلى فراشة غبيّة.
حسناً! بالحديث عن الأشياء الجيّدة، سيحدث أنّه بعد طردي من عملي كشطيرة تاكو أنّي سأبقى بلا عمل لعدّة أشهر.
سأكتب خلالها كتاباً عن حياةٍ سابقة أقول فيه هراءً كالذي قلته منذ قليل عن الدود والشرانق وتفاهات أخرى. إنّه كتاب سخيف فعلاً، لكن وبطريقة ما سيأخذ طريقه إلى النشر، ودون سبب منطقي سيُحدِث ضجة كبيرة ويتحوّل إلى حديث الساعة الأمريكي جاعلاً مني نجم الشبّاك المفضّل.
تعلمون كيف تجري الأمور في أميركا، سأقوم بجولات توقيع للكتاب في طول البلاد وعرضها، وسيتسابق أصحاب أشهر برامج التوك شو ( كأوبرا و لاري كينغ وباربرا وولترز ) لإجراء مقابلة مع المؤلف صاحب أعلى المبيعات منذ هاري بوتر. وغنيٌّ عن القول أنّي سأجني أموالاً طائلة، وقد أقرّر الانتقال إلى بيفرلي هيلز فلطالما أعجبتني الاطلالة هناك.
كلّ هذا ولن أفقد عقلي – إن كنت أملك واحداً بالأساس – فكما قلت سابقاً كنت دائماً بانتظار شيء جيّد. ومطمئناً دائماً لوصوله كطمأنينة يابانيّ ينتظر قطاره الذي يصل بمواعيد تحتَسَب بالثانية.
والآن، هذه كانت سيرة حياتي القادمة. ماذا عنكم ؟؟
مجلة قلم رصاص الثقافية