تفاجأ العالم نسبياً عند إعلان جائرة نوبل للآداب عام 2015م، بسبب فوز الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفتش، مع أنها كانت ضمن قائمة الترشيحات التي تتكرر كل عام، إلا أن تلك القائمة ترجح عادة أسماء أخرى مثل السوري أدونيس والأمريكي فيليب روث والتشيكي ميلان كونديرا والياباني هاروكي موراكامي، وذكرت اللجنة أن الكاتبة نالت الجائزة “على أعمالها المتعددة الأصوات التي تفند معاناة عصرنا”، في حين قالت سارة دانيوس الأمينة العامة للأكاديمية السوديدية: “في السنوات الثلاثين إلى الأربعين الأخيرة أجرت سفيتلانا مسحاً للإنسان خلال المرحلة السوفييتية وما بعد هذه المرحلة، لكن الأمر لا يتعلق بالأحداث بل بالمشاعر”.
تناولت الكاتبة في مؤلفاتها قضايا في غاية الحساسية، ففي كتابها “ليس للحرب وجه أنثوي 1985م” عبرت عن أصوات النساء اللواتي حاربن في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية، وفي كتابها “فتيان الزنك1990م” تحدثت عن حرب الاتحاد السوفييتي في أفعانستان، مصورة مشاعر الفقد لمن خسروا أولادهم بلا جدوى، والأذى الجسدي والروحي الذي أصاب الجنود الناجين، أما كتابها “صلاة تشرنوبل 1997م” فكان شهادات لمن عايشوا كارثة تشرنوبل النووية، في حين جاء كتابها “آخر الشهود 2004م” عن ذكريات الناس عندما كانوا أطفالاً، عن الحرب بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي.
وتجدر الإشارة إلى أن الكتب السابقة ترجمت إلى العربية بعد فوز الكاتبة بجائزة نوبل، في حين لم يترجم بعد كتابها “مسحور بالموت 1993م” الذي ترصد فيه محاولات الانتحار بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكتابها “نهاية الرجل الأحمر 2013م” الذي أفردته للرجل السوفييتي لكي تنقذه -على حد قولها- من الكذب، ومن مصيره المأساوي الذي عرفه.
عن توسيع مفهوم الأدب:
غاصت الكاتبة في أعماق النفس البشرية، وجمعت شهادات مختلفة في كل موضوع ناقشته، وقدمت تلك الشهادات على لسان أصحابها، حتى صنّف البعض كتاباتها تحت بند “الرواية متعددة الأصوات”، لكنها كتبت ذلك برؤيتها، أي أنها سجلت مادة توثيقية عميقة، ومن ثم صاغت بطريقة أدبية شهادات للعصر على هذه المآسي، معتمدة على التخييل التاريخي أو الوثائقية الروائية، ومن يقرأ هذه الشهادات سيرى أنها خارج القصة والرواية والمسرحية والشعر والمقالة الصحفية بالمعنى الكلاسيكي، إذ أنها نصوص سردية مفتوحة على الأجناس الأدبية، وتمزج بين التاريخي التوثيقي وبين التخييلي الإبداعي الذي أعطاها بدوره بعداً متماسكاً، يستطيع القارئ عبره تشكيل صورة واضحة عن جوهر المسألة على الرغم من اختلاف هذه الأصوات وتعددها.
ولذلك تأتي أهمية ترجمة مؤلفات الكاتبة، ليس لأنها تنبش في القضايا الإنسانية فحسب، وإنما لدورها في توسيعها لمفهوم الأدب، وتقديم شكل أدبي جديد قالت من خلاله ما تريد قوله، وهذا ما يتنافى تماماً مع الرأي الذي يشير إلى أن تجربتها هي تجربة صحافة استقصائية وميدانية فقط، فهي “ابتكرت نوعاً أدبياً جديداً، وتجاوزت القوالب الصحفية” كما ذكرت اللجنة المانحة في بيانها.
أهمية ترجمة كتب سفيتلانا إلى العربية:
يقول الدكتور فؤاد المرعي في كتابه المهم “الأدب المقارن” أن عملية الترجمة في جوهرها لا تتعلق بنقل نص أدبي من لغة إلى لغة أخرى، إن دور الترجمة الحقيقي هو معرفة موقع النص الاصلي في خريطة اللغة التي كتب بها، وحاجة المكتبة العربية لهذا النص، أي أن على المترجم أن يكون مطلعاً على الحركة الأدبية في لغته من جهة، وعلى الحركة الأدبية في اللغة التي يترجم عنها من جهة أخرى، فلا عشوائية في الاختيار، بل هي محاولة للتكامل بين التاريخ الأدبي للغتين، والنظر للترجمة بانورامياً، واعتبارها حركة رفد وإثراء، وهذا ما يعطي القيمة الحقيقية للنص المترجم، وإن غياب هذه الحساسية عند المترجم هو ما يجعل السوق الثقافي غارقاً بترجمات لا قيمة لها في الأدب الذي نقلت إليه، لأنها لم تضف شيئاً ناقصاً، أو ترمم ثغرة كانت موجودة فيه.
إن من يقرأ -الحالة الاجتماعية والسياسية التي تمر بها البلدان العربية منذ سقوط بغداد في التاريخ القريب، والصراعات والأزمات التي حدثت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي قبل ذلك- يدرك الحاجة الماسة لقراءة تجربة سفيتلانا التي تقدم على طبق من ذهب، الخلاصة العميقة للحرب، ومعاناة الإنسان في الكوارث، وتأثير الخيارات السياسية الفاشلة في أجيال بأكملها، لو ترجمت نصوص الكاتبة سابقاً، لربما ساهمت مثلها مثل أي سردية مهمة في إضافة قيمة لدى القارئ العربي، الذي يمكن أن يقرأها في سياقها الفكري والأدبي، مما قد يعطيه الفرصة لإجراء مقاربة بين ما يعيشه من تجربة راهنة -ابتداءً من محاكمة الخيال عند النخبة المثقفة، وانتهاءً بظهور داعش على أرض الواقع- وبين الرؤيا الإنسانية التي قدمتها الكاتبة في مؤلفاتها.
سفيتلانا أليكسييفتش:
صحفية وكاتبة بيلاروسية، ولدت في أوكرانيا، في أيار من عام 1948م، درست الصحافة في جامعة مينسك، وتنقلت بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا والسويد، كما حازت عام 2013م على جائزة السلام في إطار معرض فرانكفورت للكتاب.
جريدة القاهرة ـ مجلة قلم رصاص الثقافية