ضياء جبيلي |
دائماً ما أميل إلى قراءة الأدب الأمريكي، ولو افترضت أني فرغت للتو من قراءة رواية هي الرابعة أو الخامسة في خانة هذا الأدب، وكان تحت اليد ضمن قائمة الاقتراحات ثلاث روايات أحدها أمريكية لما ترددت في جعلها التالية.
الرواية الأمريكية كما هي الحياة هناك، غنية، متنوعة، صاخبة، حركة دائمة ودائبة، وتفاصيل هائلة أنتجتها الهجرة والهجنة والثقافات المختلفة. ألوان وأطياف لا حصر لها شاركت في رسم المشهد الروائي الأمريكي منذ هيرمان ملفل وحتى آخر روائي ماهر مجهول، بالنسبة لأحاديّ اللغة مثلي على الأقل.
من ضمن الذين أُغرمت بكتاباتهم بول أوستر، قرأت جميع أعماله المترجمة إلى العربية، ولفت انتباهي في إحدى رواياته إشارة إلى كاتب يدعى دون ديليلو، وضح المترجم في الحاشية أنه صديق أوستر وأحد كتاب جيله، جيل ما بعد الحادثة الأمريكي. وكانت تلك من عادتي القرائية، أن أبحث عما يقترحه الكتّاب في رواياتهم من أسماء بطريقة غير مباشرة، فكان ديليلو هدفي المرتجى، حتى عثرت على روايته ضوضاء بيضاء “مبأدفة” بترجمة البارع يزن الحاج، وليتني لم أعثر عليها. فروايات مثل هذا الطراز دائماً ما تصيبني بالهلع، حالة غريبة، ليست مللاً أو تذمراً أو كآبة أو شكاية من طول الرواية، لم تكن ذلك الشعور بالإحباط الذي ينتاب البعض عند قراءة رواية عظيمة، والذي قد يجعلني اتساءل، في حال كنت أمريكياً: ماذا ترك لنا ديليلو؟!
هذه الحالة التي تشبه الإحساس بالدوار حينما ينظر المصاب برهاب الأماكن المرتفعة من أسفل إلى عمارة شاهقة، طالما أجبرتني على ترك القراءة وتأجيلها إلى وقت آخر أظن أنه سيكون أكثر تحدياً لاستقبال إعصار أو عاصفة أو شيء من هذا القبيل.
حدث ذلك من قبل مع اسمي أحمر لباموك وأطفال منتصف الليل لسلمان رشدي والبارون فوق الأشجار لكالفينو والمحاكمة لكافكا والخلود لكونديرا ومائة عام من العزلة لماركيز، الصخب والعنف لفوكنر، حرب نهاية العالم ليوسا، عوليس لجويس. لكني هذه المرة قررت أن أضع أنفي بإزاء أنف ديليلو وأقرأه دفعة واحدة، فعلمت في النهاية أن أوستر لم يذكره في روايته من قبيل التكريم، إنما ليقول للعالم : تعلموا من ديليلو !
ومن بين كل مجاييله، اختار ديليو الانزواء بعيداً عن الأضواء. لا مقابلات، ومن بين كل مجاييله، اختار ديليو الانزواء بعيداً عن الأضواء. لا مقابلات، لا حوارات، ولا محاضرات.
لقد أزعج الضوء الساطع للشهرة هذا الرجل، ولم يعد بالإمكان إخراجه إلى أبعد من الحد الذي وضعه بنفسه.
كاتب وقاص عراقي | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية