كان ذلك في الثمانينيات، يوم اتخذت الحرب الباردة منحى شديد الخطورة إذ وقف العالم برمّته على شفير حرب نووية، حدث أنّي كنت واقفاً في ذات اليوم على شفير من نوع آخر لا يقل أهمية عن الأول، في القرية المنسية بعيداً في الجبال، هناك حيث لم أكن أعلم أننا كبشر مهددون بالفناء في لحظة واحدة، ولم تكن قريتي بالطبع ذات أثر في موازين القوى الدولية لتمنع حدوث ذلك. على أية حال كنت مشغولاً يومها بما هو أهم من انقراض الجنس البشري. فقد قررت اليوم أني سأعبر ذلك الخزان اللعين.
حسناً، هو خزان ماء، ثلاث حارات شمال بيت جدي، محفورٌ في الأرض بعمق خمسة أمتار، دعمت أرضه وجدرانه بطبقة اسمنتية على ما أظن، مكشوف السطح وفارغ من المياه دائماً، الغريب بشأن خزاني العزيز كان جداراً من البلوك يقسمه طولياً إلى نصفين متساويين، لم أعرف يوماً وظيفة هذا الجدار المنصف، لكنّني أعرف أنّه كان يلحُّ عليّ كي أمشي فوقه فأعبر الخزان من طرف لآخر.
اليوم، وبعد كثير من التردد والخوف قررت أن أنتهي من الأمر، استيقظت باكراً قبل كل الأولاد في الحارة حتى لا يكون هناك شهودٌ على فشلي، حين وضعت قدمي على طرف الجدار اللحوح شعرت بالتردد مجدداً، فقد كان الخزان عميقاً و فارغاً تماماً، و السقوط سيكون على الاسمنت مباشرة. تبّاً، أيُّ حماقة هذه؟ لكنني وحين كدتُ أعدل عن الفكرة تذكّرت شيئاً هاماً جداً، كنت قد أقسمت في نفسي الليلة الماضية أني سأفعلها هذا الصباح. كان هذا سلاحي الأكثر فعالية لقهر كل مخاوفي ففي ذلك الزمن كان الرب بالنسبة لي لا يزال صاحب الفرن العملاق، يرمي فيه الكاذبين والحانثين بأيمانهم. وبضعة عظام مكسورة ستكون أهون بكثير من الرمي في فرن الرب.
إذاً، لا مفر من فعل ما يتوجب علي فعله، وضعت قدمي مجدّداً وأخذت خطوتي الأولى، ذعرت ذعراً شديداً، فسماكة الحاجز اللعين تكاد لا تتجاوز سماكة قدمي الصغيرة، حاولت أن أتمالك نفسي وأتابع فلا مجال للتراجع بعد الآن، خطوة أخرى، تسمّرت عيني في قاع الخزان، أيُّ ابن قحبة ذاك الذي اخترع نظرية ((لا تنظر إلى الأسفل وسيكون كل شيء على ما يرام)) ؟!. الأجدر بالرّب أن يرمي أمثاله في الفرن. من المستحيل ألا تنظر إلى الأسفل وكلما نظرت زادت الأمور سوءاً. سرت قشعريرة شديدة البرودة في أطرافي، وسرت مرة أخرى و أخرى. أحسست بشيء يسحبني نحو القاع بسرعة شديدة، وانتظرت أن يرتطم رأسي بالأرض الإسمنتية.
ما زلتُ صغيراً يا ربّ، لا تقتلني الآن. هناك على الطرف الآخر من الزمن ما زال لديّ الكثير للقيام به. عليّ أن أُغرَم بمعلمة الصف الثالث، كما أنّ أمامي عشرات المقاليع و الزحّافات لأصنعها، و لم أخرج حتى الآن في رحلة صيد الأفاعي التي أخطط لها منذ دهر. مئات الكرات لأثقبها وأحطم بها شبابيك الجيران، الكثير من الشجارات لأخوضها و العديد من الندبات لأحظى بها. وطبعاً آلاف الخيبات والخذلانات التي ما زال عليّ اختبارها. أعرف أنّي ما إن أمرّ بإحداها سأتمنى لو أنّك هشّمتَ جمجمتي هذا اليوم بالذات، لكنّ على الحياة أن تمضي بترتيب ما.
من الشجارات لأخوضها والعديد من الندبات لأحظى بها. وطبعاً آلاف الخيبات والخذلانات التي ما زال عليّ اختبارها. أعرف أنّي ما إن أمرّ بإحداها سأتمنى لو أنّك هشّمتَ جمجمتي هذا اليوم بالذات، لكنّ على الحياة أن تمضي بترتيب ما.
حسناً، من الجليّ أنه ترأّف بي، فحين فتحت عينيّ وجدت نفسي على الطرف الآخر.
” نجحتُ إذاً في العبور !! ” فكّرتُ بذهول ، بعد ثوان تبدّد الذعر وحلّ مكانه كل ما في هذا العالم من فخر و سعادة. و كحال كل الجاحدين نسبتُ الفضل لنفسي في العبور العظيم و تجاهلت رأفة الرب بي.
أيّاً يكن، لقد أصبحت منذ هذه اللحظة بطلاً حقيقياً، على مستوى الضيعة، بل على مستوى الكرة الأرضية، من الوارد أن لا يكون أندروبوف سمع بإنجازي الكبير، فقد كان مريضاً بقصور الكلى وحزيناً لأنه أعطى أمراً خاطئاً بإسقاط طائرة مدنية ظنّاً منه أنّها طائرة تجسس مزعومة، و لن يكون لدى ريغان أي وقت لسماع تقارير عن العابرين عن العابرين فوق جدران الخزانات، فهو مشغول جدّاً بتسريح شعره بزيت جوز الهند (مستذكراً صباه حين كان ممثلا من الدرجة الرابعة)، قبل أن يخرج على الأمة ليشتم إمبراطورية الشر ويستفزها إلى الحد الذي جعل أندروبوف يبقي إصبعه قريباً جداً من الزر الأحمر، أمّا السيد توباز (جاسوسي المفضّل )، فما كان ليعرف شيئاً عنّي وهو داخل أروقة النيتو يكشف أخطر أسراره و يرسلها مشفرة إلى الجيش الأحمر.
لم أُعر اهتماماً لكل ذلك، أردت فقط في تلك اللحظة أن أركض إلى أمي وأخبرها ببطولتي، لكن وفي تلك السن الصغيرة كنت قد راكمت بعضاً من خبرة الحياة جعلتني أدرك على الفور أن هذا النوع من البطولات ستكون مكافأته عند أمي صفعة مدوخة لا أكثر. لذا عدلت عن الفكرة واحتفظت لنفسي بنشوة العبور الكبير.
في ذلك اليوم وجد الأمريكان والسوفييت طريقة كي لا يفقدو صوابهم و يبدؤوا بالضغط على الأزرار التي كانت ستنهي الحياة كما نعرفها. عبور قلق بالكوكب إلى ضفة صراعات جديدة. أما أنا فقد عبرت أول إلحاحاتي ولن أعود يوماً الطفل الذي كنته.
أمرٌ أخير. هل ذكرتُ أني عدتُ في الصيف التالي لإحياء ذكراي الرائعة؟
و لن أعود يوماً الطفل الذي كنته.
أمرٌ أخير. هل ذكرتُ أني عدتُ في الصيف التالي لإحياء ذكراي الرائعة؟
حسناً وجدتُ عدة فتيات صغيرات يتسابقن من منهن الأسرع في عبور ذاك الجدار.. اللعنة !!
مجلة قلم رصاص الثقافية