سهام داوود |
لي معرفة، بل صداقة، مع الكاتب الإسرائيلي المعروف أ.ب. يهوشواع، والذي اسمه على قائمة جائزة نوبل من حوالي عشرين سنة، ولا تستغربوا إن فاز بها أو سبقه إليها غيره من الكتّاب الإسرائيليين. صداقة كان قوامها – أيضًا- نشاطنا السياسي في “لجنة المبدعين الإسرائيليين ضد الاحتلال ومن أجل حريّة التّعبير”. وعادة ما كنّا “بحاجة” إلى حتى أمثاله في سبيل إطلاق سراح كاتب أو شاعر فلسطيني معتقل بتهم شتّى، أو تمّ تحديد حريّته بأمر إداري تعسُّفي (يعني اعتقال للـّه بللّـه دون أن يضطروا لتحديد تهمة الشخص المُعتقل)، أو حتّى في سبيل نقل جثمان مبدع فلسطيني أو شخصيّة وطنيّة وصيّتها أن تُدفن في تراب وطنها. هنا.
كان من عادة أ.ب. يهوشواع – عندما كنّا نتقابل بصدف متكرّرة كثيرة في مكتب البريد حيث صناديق بريدنا في المكتب نفسه؛ كان يصرخ – في غالبية الأحيان- هائجًا مائجًا، من بُعد: “قولي لصديقك / صاحبك أن … “.
كان الموضوع دائمًا تصريح ما، أو فعلة، أو خطوة سياسية تتعلق بقضيّتنا الوطنية، أو هو حوار مع “صديقي” في صحيفة ما في العالم. أمّا الصديق/ الصاحب الذي يقصده أ.ب. يهوشواع فهو محمود درويش.
في الكثير من الأحيان، عندما كنت أشعر أن مزاج الشّاعر يحتمل، كنتُ أنقل الرسالة. وهو كان يُفهمني – إن كان الموضوع هو مباشرة- ويشرح لي ما “الذّنب” الذي قام باقترافه، والذي أدّى إلى هياج الكاتب الإسرائيلي. ولكن غالبًا ما كان الأمر يثير روح السخرية المرّة لديه. وأحيانًا يقابل الحادثة بدعابة فحسب.
أ. ب. يهوشواع ضمّن في إحدى رواياته، نسيتُ اسمها الآن، وقائع مقابلة مع محمود درويش جرت في مكتبه في رام الله، احتدّ فيها النقاش بينهما – وهو الأمر الطبيعي بينهما. وفي الخلفيّة أيضًا لقاء وحيد جمعهما في ندوة أدبية في إيطاليا.
كانا لفترة في تراشق كلامي غير مباشر، ودون علاقة شخصيّة بينهما. ولكن كان يفهمه من كان على علم بتفاصيل الخلفيّات.
و أ. ب. يهوشواع نفسه هو الذي قال لانطون شمّاس يومًا: ما في ردّ على مواقف ومقالات أنطون باللغة العبرية أن: “إن مش عاجبك بإمكانك أن ترحل من هنا إلى خارج الحدود”، وكان يقصد إلى العالم العربي. وكأنه السيِّد على وطننا.
“بيت القصيد” في حكايتي هذه: في هذه الأيام التي نستذكر فيها محمود درويش تذكّرتُ حادثة أُخرى معهما. أخيرة. كنتُ شاهدة ومشاركة فيها.
عندما استصدرنا إذنًا لكي يدخل محمود درويش إلى وطنه لكي يحيي أُمسية شعريّة في حيفا، تلك الأُمسية الأسطورية الوحيدة في مدينته الأثيرة، والتي كان الشّاعر منحني شرف تنظيمها (باسم مجلة “مشارف” الثقافية التي كان أسسها الروائي إميل حبيبي وباسم “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة”، وليس صدفة، فقد كان هو ينتمي الى أهم مكوّن في هذه “الجبهة”، وهو الحزب الشيوعي – الذي نشط به محمود درويش طول عمره الواعي، وعبر عمله في صحافتها بالأساس، إلى أن اضطر الى ترك البلاد.
وكانت عُقدت في مثل هذه الأيام عام ٢٠٠٧ (١٢ تموز)؛ تلك الأُمسية التي أقامت الدّنيا ولم تقعدها – محليًّا – في طول البلاد وعرضها- وعربيًّا وإسرائيليًّا.
في تلك الفترة اتصل بي أ.ب يهوشواع وهو المقيم في حيفا أيضًا، طالبًا أن أتواسط لدى محمود درويش في سبيل ترتيب لقاء بينهما، علمًا أن الإذن بتواجده في البلاد، هو لـ ٧٢ ساعة فقط.
وافق الشاعر – كما هو متوقع من شخص ثاقب التفكير السياسي وبعيد النّظر – وخصصنا من وقته الضيق الثمين، محسوب الدقائق، ٣٠ دقيقة نلتقي به في مقهى “مندارين”، المنزوي، المحاط بحديقة في وسط مركز جبل الكرمل.
كما كان متوقعًا.. اللقاء كان متوتّرًا ولم تغب عنه مؤثّرات التناحرات السالفة، وسرعان ما ازدادت حدّته إلى حدّ الفوران .. ودرءًا لحدوث الأسوأ، همستُ بأُذن محمود على مسمع من الكاتب إن وقت لقائنا هذا انتهى واقترب موعد اللقاء التالي. وبالفعل، كنت قبل الهمسة بدقائق اتصلتُ بصديقي القاضي الشاب أمير طوبي، وهو نجل رفيق وصديق قديم لمحمود من أيام حيفا السّالفة، الراحل جورج طوبي – وكان محمود على علاقة خاصة به – اتصلت به وكان بيته على مسافة دقائق معدودة من مقهانا، لكي استقدم موعدنا بربع ساعة – ربع الساعة التي اقتطعناها للتوّ من لقاء الكاتب المشاكس.
بعد دقيقتين كنّا أصبحنا خارج المقهى وصديقنا ينتظرنا فعلاً بسيارته في آخر الممر بين المقهى والشارع الرئيس من كرمل حيفا. ونحن في ممر المقهى الطويل لحق بنا الكاتب الاسرائيلي واستوقفنا مهرولاً، حيث وصلنا الى السيارة، موجّهًا كلامه إلى محمود بالطبع، سائلاً بتعبير عبري شائع: “نسيت أن أسألك؛ كيف تشعر؟ هل تشعر كالذي في بيته”؟
راقبت وجه محمود مدركة ماذا سيشعر تجاه هذا السؤال؛ رأيت وجهه الذي استُفزّ، ورأيته يحتقن، شاهدتُ لغة جسده، وقد هزّ رأسه مطأطئًا علامة المغلوب على أمره بتصنّع الأدب، لبرهة تمامًا، ثم رفع رأسه وشمخ بقامته في حركته المعروفة التي تطاول السماء، ناظرًا الى أ.ب. يهوشواع، وقال له ناظراً إلى عينيه بثبات: “نعم، نعم، أشعر مثل صاحب البيت“!
ولم ينتظر أية ردة فعل فقط استدار ليشير إلي بدخول السيارة، دون أن ينسى لياقة التصرُّف، انحنى الى داخلها، وطلب من صديقنا أمير أن يدعس على دعاسة البنزين.
شاعرة فلسطينية | مجلة قلم رصاص الثقافية