فراتي عتيق |
حين تخذلك أصابعك وتصبح مشلولة، وتغدو غير قادرة على أن تعانق بعضها خشية ارتكاب فعل فاضح.
وحين يصبح القلم قطعة جمر تحرق كل من يقترب من حماها، وتغدو الصفحات صحاري تيه لا دليل فيها، حين يكون كل هذا فأعلم انك على مقربة من النهر والبادية وبالتحديد أنت في مدينة العجيلي الذي تسيد عرش القصة، وحاضرة الشاعر العباسي ربيعة الرقي والشاعر الصنوبري، وديار عالم الفلك والرياضيات البتاني.
هنا في هذه البقعة من أرض كان للحياة طعم مختلف، وللقول إيقاع مغاير، فكل شيء له طقوسه الخاصة الجميلة، الماء والشعر وصوت الربابة وأحاديث الوردات للنهر، جميعها تمنحك الشعور بالاختلاف عن سائر تفاصيل الأماكن. في هذه البقعة التي كانت منسية وضائعة تائهة بين اليابسة والماء ثم أصبحت الخبر الرئيسي في كل نشرات اﻷخبار، يخنقك الصمت ويجبرك على تعلم الخوف من الكلام، تنسى أنك دخلت عالم القراءة والكتابة، تحاول أن تقنع نفسك أنك جاهل لا تستطيع أن تلفظ اسمك لا أن تكتبه.
في بلدتي لم يكن هنالك متسع للقلم كي يبكي دمعه على بياض قلوبنا، وليس بمقدور جرة الحبر أن تمنح شيئاً مما تحتويه من عطر ودم كي نبوح بما يجول في الخاطر والوجدان. في الرقة عليك أن تكون بلا وعي، بلا عقل بلا ذاكرة بلا روح وبلا إنسانية، في الرقة تعود الكلمة على قائلها بالبلاء، وعلى ناطق الحرف بالكارثة، وعليه أن يقتلع لسانه بيده، والفكر تهمة توصلك للتخلي عن رأسك. التفكير جريمة يعاقبك عليها كل من حولك، وممارسة الكتابة أشد من ارتكاب الزنا، في مدينتي عليك أن تكسر كل أقلامك فوق رأسك، وتلف أصابعك بالجبس وتقيم الحد على الورق. لا شيء هنا يترك لك المجال لتتذكر أنك بشري سوى وجهك في المرآة التي أنكرت عليك النظر إليها وحيداً، بلا قلب وبلا عقل و بدون ذاكرة، أنت بلا عنوان لا وجهة لك كي تسافر إليها ولا مركب تسوقه الريح كما تشتهي.
هنا البشر مترعون بالخوف، يتسابقون إلى تنفيذ ما يطلب دون معرفة الخاتمة، وأصحاب اﻷقلام هم القابضون على أطراف الحياة يحترقون بصمتهم وبجمرة الوقت. حين تكون هنا تنسى رائحة القرطاس، ولا تعرف كيف تقلب صفحات الكتاب الذي لا يجرؤ أن يمد طرف غلافه خارج جحره، باختصار لا شيء هنا قادر فعل شيء سوى انتظار الموت الذي لا بشبه نفسه في غير مكان.
على مدى السنوات العجاف راحت المدينة تنزف مثقفيها من كتاب وشعراء وفنانين، فلم تعد قادراً على أن تعثر على أحد من هؤلاء. مدينة المهرجانات اﻷدبية والثقافية وعاصمة القصة القصيرة بلا أدباء وبلا مثقفين، فلقد اختفى معظمهم، فمن لم يقتل اعتقل ومن لم يعتقل فرَّ هارباً بروحه وبرأسه، تبعثر كل هؤلاء في أنحاء اﻷرض باحثين عن فسحة للكلمة والريشة والروح، وبقيت رقتهم تبكي ذكراهم كل حين.
وإن تبقى أحد منهم، فقد التزم صمته وبيته حتى بدون خير جليس إن معظم المكتبات الشخصية إما أُحرقت أو تم إخفاؤها خشية على صاحبها وعلى ما فيها. مدينتي بلا قلم لتكتب مأساتها وبلا ريشة لترسم وجهها الموشوم بالدم والنار والموت.
كاتب سوري | مجلة قلم رصاص الثقافية