هناء الصلال |
لطالما كنت أخشى أن تتبخر تلك الذاكرة العطرية التي راهنت عليها رغم الزمن.. لكنها تبدو صلبة كلما أشعلنا بخور الحنين في مبخرة الألم.. كانت وليدة الصبح جميلة كفجر اكتسى بالسحب المثقلة بقطرات الندى.. الطفولة ترش أزهار الخيال على الواقع.. فعندما تدخل أليس بلاد العجائب، أدخل مدينة العطر الخالدة في ذاكرتي.. رغم مرح الحياة التي كانت تبهرنا بتفاصيلها هناك تفاصيل تحمل عطر الحنين وتعبئه بقارورة..
في أحد أيام صيف 1986..سكن خلف سكة القطار (غنامة) رعاة غنم من عرب العشائر ونمت بين أهلي وهؤلاء الوافدين علاقة طيبة فكانت جدتي تطلب مني نزولاً عند رغبة سيدة بيت الشَعر خمسينية العمر وصديقة الجدة أن ترسل لنا فطور الصباح من الزبدة..
فكان ذهابي إلى بيتهم من أحب الأفعال لقلبي .. أنفذ دون تذمر بل أطير من الفرح أحمل سطلي الصغير وألوح به وأسلك دربي نحو نُزل الجيران ..أعبر سكة القطار أنا وأخي الأصغر بعد أن نضع عدد من الحجارة على السكة الحديدية اعتدنا هذا الفعل دون معرفة السبب..
ربما كمحاولة لإيقاف هذا الكائن الطويل الذي يفزعنا أثناء النوم بصوته وصفيره الذي يطرق السمع بفزع..
كان الربيع يفترش الأرض ونقطف على طوله شقائق النعمان والأزهار الصفراء التي لا أعرف لليوم اسمها..
ونجمعها باقة بحجم قبضة الكف ..قبل ان نصل تجذبنا رائحة عطر الأرض المبلولة بالماء .. ريح من أرضٍ مباركة تتغلغل في مسامات الروح فترتاح كل الجوارح..
فنستعجل الخطا لنصل عالمنا الذي ترك الحلم وسكن أرض الواقع واليوم نسترجعه حلم بمرارالواقع.. الجدة تجلس على بساط ملون وبيدها تمسك (الشچوة) تنفخ فيها ومن ثم تربطها وتبدأ بهدهدتها ونقترب بصمت نتابع حركات يديها المنقوشة بدق أزرق يميل للخضرة وتطلب مناالجلوس بقربها .. الخاصات البيضاء ترف على الحبال وكل شيء مرتب ونظيف ليت الجميع يلج لذاكرتي ويعيش روعة تلك التفاصيل..وانت تنظر إلى ذلك البيت ..تنسى لوهلة أنه بيت من شَعر ..ولشدة الاهتمام يتحول لبيت من شِعر تغزله الذاكرة ..لمن يقرن النظافة بأهل المدن يغير نظرته حيال الأمر.. الزرب الذي يحيط بالمحرم واللحف المطوية والوسائد المرتبة بشكل هندسي والأغطية التي تفوح منها رائحة صابون الغار كل شي يتحدث بلغة مختلفة ..لغةلايفهمها إلا أهل الرقة .. بعدأن تستوي الزبدة تفرغها بقدر كبير وتبدأ بجمعها وصقلها بين كفيها بمهارة وتقسيمها لكرات متوسطة الحجم ..نحن نتابع المشهد بانتباه وذهول في مدينتا السحرية..ثم تصب لنا اللبن وتضع فيه إحدى الكريات وتوصينا بالحيطة والحذر ونحن نقطع السكة ألا ينسكب اللبن وتسفح الزبدة ..فالبياض مشهود له بالعفة يجب ألا تمسه إلا الأيادي المطهرة كي لايفسد نقاؤه ..نعود من رحلة أحلامنا بسطل من اللبن وكرة من الزبدة ليكون للافطار طعم مختلف .. طعم رغم الزمن تظل جائعاً ..وعطر مخزن في قارورة باحكام داخل الذاكرة..
واليوم ذاكرتي تتحدث تنطق بلسان الأمنية وتنبض بقلب الحلم..كانت تختبئ خلف الغيم وليتها بقيت سحرية لايراها إلا من يسكنها ..اليوم رفعت الحسناء خمارها وكل العالم بات يعرفها .. غريبة عن أهلها وساكنيها يخشون لفظ اسمها ..ورغم ذلك فأنا بعطرك أتطيب وبذكراك القلب يستمر بالنبض ..ولو شوهت حضارتهم وجهك المشرق ستظلين في عيوننا الأجمل رغم شراهة الحرب.
مجلة قلم رصاص الثقافية