منال حمدي |
في كتاب الله كان يوسف.. وفي روايتي التي ستصبح قريبًا قيد النشر كان أيضًا يوسف. وأبطال آخرون جوقة له. سارة المغرقة في منمنمات حكايا يصنعها البشر، وعصامي الباحث عن الحبّ والجامع لمكتبة ضخمة من قصص العشاق والورد. ورجب الذي تعفّنت في حضنه امرأة مخمورة به.
كتبت ليوسف النبي كاستهلال لروايتي: “لنبيّ أضاعوه في الجُبِّ أن يضيع.. لنبيّ نصف في السماء ونصف في الأرض أن يضيع.. فجسده لحم وماء ودم وهواء ومتصوّف واحد وألف ألف عشيق.”
وكم أنت تشبه يوسف يا يوسفي الصغير! كم نمت شقائق النعمان على صدرك وتحت إبطيك جافّة! حتى أنّ المطر كان يجفّفها! والقحل كان يبقيها على قيد الحياة دون تروية، دون أن تنفلت في كأس من خمر شهيّ قدمته لك رمانتيّ! فأنت هكذا تريدها، وهكذا تراها حيّة. اسألك: كيف بقيت على قيد الحياة وهي دون تروية؟ حتى، حتى أنك حين تنظر إلى مرآتك بعدما تغسل جسدك من فقاعات الصابون تراها فتية، أما مرآتك فتراها آسنة. فأنا كنتُ الغضّة في مرآتك من أخمصها إلى أعلاها!
كيف يكون غير ذلك وأنا، كنت في كل شيء أنثاك المغامرة، ثم تبدلتْ، ونسيتْ، كأنني لم أكن ماض وحاضر لك، كأنني “لم أكن صدرك أو ثغرك أو معصمك”، كما غناها فريدنا!
جغرافيتك أصبحت فيما بعد وعرة، زرعت لي المتاريس، حزنت عليك أيّما حزن وأنت تنهمك في الحفر والعرق يتصبب من عضلاتك المفتولة التي توسدتها يومًا حتى وإن كنت تحفرها لي. فأنا ما زلتُ أخاف عليك، وما زلتُ أريد أن أكون يديك! ثم رأيتك تقترب مني، تنزع عن قدميّ حذائي، ذاتها التي كانت تلاعب حافية قدميك كلما دنا الشوق مني وأنت نائم بقربي تستعير صفحة الماء لتبقى صورتي في مقلتيك. ثم وأدتني حيّة، في حفرة ملؤها الديدان تأكل خطواتي التي خطوتها إليك. وأنا حتى الآن ما زلتُ في الوأد!
شارات الوصول إلى قلبك معطلة، لم يفعّلوا قسمًا لمثل هذا الميكانيك. ما زلنا دولًا يا حبيبي متأخرة. استجابات القلب لنبضي مقيدة. الرئتان متوقفة عن استنشاق هوائي المعبأ في صدرك وما زال في حمّالة صدري مخزونك الذي أصبح في حالة حرجة.
الطرق مغلقة وعليها شارات صفر، “نأسف لإزعاجكم.. نعمل لراحتكم”! أتذكر أنّ هذه الشارات لم تكن موجودة عندما سلكتُ هذا الطريق. الآن أنظر إلى الأمام، أنظر إلى الخلف. ذاتها موجودة. لا أستطيع العودة، لا أستطيع السير حتى النهاية. ماذا فعلت بي؟ ماذا أفعل أنا بي؟ كيف تريد الخلاص مني ولم تهيء لي طريقًا للعودة؟! أما أنا يا سيدي، أستعذب الموت الذي حضرته بإتقان ورسمته بريشة فنان. سأموت في كل شبر حفرته لي، ما أميزني عندك. ستشهد عليّ حنايا جسدي وثناياها التي رقّت وصاغت وأذعنت لك، وسيشهد الله أنني آمنت بك كما إيماني في الموت فيك وعلى يديك.
الشوك مزروع في أسفل قدمي. و”السيف مزورع بخاصرتي” كما غناها الساهريّ. أمسك بقدمي، أحاول التخلص منها واحدة واحدة، وما إن أنتهي حتى أبدأ بالأخرى، ثم أعود لما بدأت به فأراك وقد “استعذبت”؟
لماذا تقف على مقربة من وجعي متفرجًا متأهبًا لسقوطي؟ هل لتكتب قصيدة برجوازي لا ألم فيها ولا أنات! أتحتاج لإراقة دمي لتكتب قصيدة؟ أما أنا فكتبتُ القصيدة لأنّ نزيفي نال مني ومن دفاعاتي!
لا استراحة لفنجان قهوة وأنا على قيد انتظارك. مقعد وحيد مقيّدٌ على قارعة الطريق معفّر بالغبار فوقه شمس حارقة وتحته حفريات تبتلع اتزاني. أتذكر هذا المقعد جيدًا. جلستُ عليه سابقًا، وفوقي قطوف دانية قلتَ لها كوني، فسخّرتها لي، لا أحتاج للوقوف كي أقطف منها شيئًا، كنت كلما هممت برفع يدي لأمسك بها تسّاقط على صدري شفاه من تراب وارئحة من صنوبر، وعرق حارّ يسيل على جسدي فيدغدني!
كيف أعود أدراجي، أخبرني، بالله عليك أخبرني، كن مكاني، إجلس على مقعدي المقيّد وخذ قللمي وقلبي وحبري ووجعي وجرب أن تكتب ما تشعر به وأنا عازمة على الرحيل عنك، ولك ما تريد في هجائي أنا ما زلت أنا، في العذابات
محترقة وأضحك أنك صنعتها لي، فأنا ما زلتُ في وقتك كلَّ الوقت يا حبيبي؛ لا تقل لا، فقط، نعم.. نعم.
أنا مثلك أستعذب عذاباتك لي لأنك صانعها المحترف. وما زلتُ أشغل تفكيرك بعمق الضربات المتوالية التي عمّقت الجرح؛ لا تقل لا، فقط، نعم.. نعم.
وما زلت مائدتك المشتهاة وحولك الخدم والحشم يطأطئون الرؤوس لا يملكون ما ملكت يمينك؛ لا تقل لا، فقط، نعم.. نعم.
وما زال كأس خمرك يقترب من شفاهي لأسكر وتسكر، لأنسى وتنسى؛ صخب وهذيان وركض ولعب. فالأرض لنا، والسماء لنا، والليل لنا، والسرير لنا مجون وجنون واحتدام وكفر بكل ما قهرنا؛ لا تقل لا، فقط، نعم.. نعم.
عُد يا حبيبي. لن أسألك لماذا كفرت بي وأنا المتعبدة في محرابك؟ فأنا الآن أعشقك كأول مرة؛ نعم.. نعم. كأول مرة، وأنا بلا تاريخ دُمغ على قلبي يحدّد وقتًا لانتهاء الصلاحية. أنا في منتهى الصلاحية لك؛ نعم.. نعم في منتهى الصلاحية لك.
كاتبة وقاصة أردنية | مجلة قلم رصاص الثقافية