أطلي أظافر قدمي بالأحمر وأنا أفكر بهذا اليوم وكيف مرّ.. فلم أكن أتوقع من سائق التكسي الذي ركبت معه أن يعرف موقع مشفى يافا، بل حتى شعرت بأنه سُرّ حين ذكرت له العنوان وقال:
– عملت عملية اللوزات لولادي التنين هنيك..
– منيح.. أصبح ما في داعي لحتى دلّك..
واسترخيت بجلستي وأنا أشعل سيجارة دون أن أشغل رأسي بالاتجاهات واللفات الممنوعة والمسموحة على أوتستراد المزة.. يستهويني ركوب سيارات التكسي فقط لهذا السبب، أن أدخن سيجارة، أو اثنتين وأحياناً ثلاث بحسب الازدحام على الحواجز..
ذكرتني حديقة الاتصالات المواجهة للمشفى بتلك الفترة التي كنت أعمل فيها كمترجمة في مركز الزهرة، كانت صديقتي ميدو مشاكل تلتقي بخطيبها عالم الذرة هناك، وأحياناً تصطحبني معها في مواعيدها الغرامية تلك، ولم أعد أذكر السبب الذي كان يدفعها لأكون مُحرماً بينهما.
أنا أيضاً ارتكبت موعداً غرامياً وربما اثنين هناك، أو ربما قد ارتكبته في الحديقة المجاورة لها، كم هي غريبة الطريقة التي تعمل بها الذاكرة.. فقد عادت بي أيضاً إلى شهور مرضي التي تتالت سريعاً أمام عيني وإلى ظهيرة يوم ربيعي أو خريفي.. تلك الفترة التي يهبط فيها الظلام باكراً مع بعض البرودة.
تذكرت الآن.. كان يوماً ربيعي وزهر الزيزفون الناعم يتساقط علي مع كل نسمة ريح خفيفة فأنفضه بيدي عن ثيابي وعن الشال الذي كنت أربطه على رأسي كعمامة أحبت صديقاتي موديلها فعلمتهن طريقة ربطها بكل سرور.
ميدو لم تعد هنا، إنها في هولندا تفتعل المشاكل كعادتها، وأظن أن خطيبها ذاك قد مات بالسرطان، بصراحة لم أعد أتذكر جيداً مجريات حياته بعد انفصالهما رغم أنها أخبرتني، فذاكرتي لم تعد تتسع لأخبار الجميع، فحتى تواريخ الأيام لم أعد أحفظها، بل أدعها تجري كيفما تشاء، لكنني ما أزال أذكر فقط أنه كان حقيراً، صفة التصقت بإنسان قد مات بسرطان الدم منذ سنوات، هذا ما بقي من ذكراه فقط رغم كونه عالم ذرة.
*****
بصراحة، لا يشغلني كثيراً معرض دمشق الدولي وهو الخبر الأول الذي يتداوله الجميع هذه الأيام، خاصة بعد أن تم نقله إلى مدينة المعارض، كنت أحب مكانه السابق هناك، قرب بردى الهرم ذا الرائحة العفنة لأنه يذكرني بطفولتي وبزياراتنا المتكررة لدمشق حين كان أبي أحد المهندسين العاملين في سد الفرات الذي تحرر مؤخراً من داعش، ومؤمناً بضرورة بناء البنية التحتية للبلد وببناء الاشتراكية، أما مكان المعرض الجديد فلا شيء يربط ذاكرتي به على الاطلاق، وبغض النظر إن كانت “سوريا تنبض بالحياة” أو توقف ذاك النبض فيها يشغل بالي فقط هؤلاء الملقيين في الشوارع، النائمين تحت الجسور وفي الحدائق مفترشين أرصفة دمشق وقد نهشهم الجوع الذي ينهش فينا نحن أيضاً، لكننا على خلافهم ما زلنا قادرين على تدبّر أمورنا بقدرة قادر.
*****
في المقعد المواجه لي يجلس مع زوجته وبناتهما الثلاث محشورات في الزاوية قرب نافذة السيرفيس، طفل آخر في حضنها، يصبح المجموع أربعة، هي ترتدي إيشارباً قاتماً ومانطو لتحت الركبة يظهر تحته بنطال جينز، جوارب سميكة وحذاء دون كعب، ليست جميلة أبداً، بل تبدو باهتة الملامح، والبنات باهتات أيضاً، يشبهنها، لكن في فساتين جميلة ملونة يحملن حقائب صغيرة، أكبرهن في الثامنة على ما أظن. انظر إلى الاكسسوارات البلاستيكية التي تزين أيديهن ورقابهن، جدائلهن المزينة بمطاطات ملونة، أفكر كم اعتنت بهن هذه الأم التي لم تتجاوز الثلاثين، هو أيضاً في نفس عمرها، أفكر أيضاً كم كان عمريهما حين تزوجا؟ الثامنة عشر؟ وربما أقل من ذلك..
ملفت كم الحب الفائض في هذه العائلة وكل هذا الحنان.. يتهامسان طوال الطريق كعاشقين، يحيط بيده كتفها بين حين وآخر، ويستمران بالهمس بينما أحاول اختلاس النظر إلى أذني الطفل في حضنها لأعرف إن كان صبياً أم فتاة.
يهمس لها مجدداً في أذنها فتضحك بخجل، يمسك يدها التي تحيط بالطفل وينظر في عينيها وهو يحادثها نظرة يتسارع منها “نبض القلب”.
أحاول النظر إلى أذني الطفل لألمح حَلقاً لكنني لا أنجح، فالغطاء الملفوف به يغطي جزءاً من الرأس وافكر: ماذا لو كان فتاة أيضاً، فهل سيتوقفان عن الانجاب ويستسلمان لمشيئة الله أم سيستمران إلى أن يأتي الصبي؟
يتوقف الميكرو عند موقف الدويلعة ويصعد فيه شاب من الأمام قرب السائق، تبدأ الضحكات المكتومة بين الركاب، فالشاب لا يتوقف عن تقليد أصوات الحيوانات بدءاً من الحمار إلى البقرة ثم الديك، ينبح ويموء أيضاً فتضحك الأم الصغيرة مواجهي بخجل وهي تهمس بشيء في اذنه فيضحك أيضاً.
أوقف الميكرو وأنزل دون أن أعرف باقي الأصوات التي سيقلدها ذاك المجنون الجالس قرب السائق، ودون ان أعرف إن كان في حضنها بنت ام صبي، فلم أرى الحَلق في أذني الطفل.
23/8/2017
موقع قلم رصاص الثقافي