قالت له، قال لها، قهقهت الطبيعة: في البدء كان الأخضر. مالت بقية الألوان فوق بساط حنون.
قال لها، قالت له، هبّ السؤال وانتشى البحر: في البدء كان الأزرق.
تطاولت الألوان وتبخرت بين اقنومين.
قالت: سأكون الأخضر.
قال: سأكون الأزرق.
حرَّكت ملوحة أمواجه بحلاوة عناصرها، رش الملح فوق ثمارها فأينعت وطاب القطاف.
مشى يحدث حبات الرمل عنها، فانسلت نجمات البحر، وشدت مراكب الحكايا فتناسلت قصص الخلق الأزرق.
داست فوق العشب، طيرت للريح شالاً فصفقت خلفها أناشيد الخلق الأخضر.
هتفا بنشوة: هذا لن يكفي سنستولد منا كل الألوان…
انسفح الأزرق فوق الأخضر، تغلغل بين ثناياه، تسلق على جذعه، انحدر في تجاويفه، تمدد فوق مروجه، تعرج حول سواقيه, تكور فوق مرتفعاته، فانتفخ الأخضر وحان المخاض.
قالت: لقد أنجبت لك الألوان كلها، أرضعتهم فنون العزف والغناء، تعال نكتب وصايانا على الألواح ليحفظها الأبناء للأحفاد، تعال نعلمهم تقديس الأسرار ونلفها في صرة تتناقلها الأجيال.
قال: لقد زرعت فيك أول رشقة لون سيكون دوري التالي عظيماً فأنا سأدربهم على فنون الصيد والغوص في الأزرق.
قالت متخابثة: لا تنس أن تعلمهم سر الظهور لأنك تختفي أكثر مما تظهر.
قال بعتب رقيق: أنا أختفي كي أتقن طرقاً جديدة في المزج والرشق والدفق.
قالت: وإذا ضيعك الأزرق.
قال: إذا ضيعني الأزرق غني واعزفي للأصداف كي تعيدني إليك فروائحي شباك منصوبة لاصطياد أماكنك مهما كانت وعرة.
امتلأت الأرض بأطياف اللونين وتناسلت الأجيال، تفاخر الجيل الأول بمزيجه الصافي من الأخضر والأزرق… حفظ الأبناء تعاليم الآباء ونفذوها بدقة متناهية نقولها لأبنائهم الذين حفظوا بدورهم دقة المزج وسر الدفق والرشق.
في الجيل الألف بعد المئة تعددت الأهواء والمشارب فأهمل من أهمل فنون الأجداد وتعاليم الآباء، واحتفظ على نزر يسير من سر الأسرار، فامتدت الأيادي المتناحرة على التغيير وقلبت المفاهيم فغير الممكن أصبح مرغوباً ومقبولاً، فانسحب الأزرق من الساحات لحق به الأخضر مبتعداً، فضاقت الأنفاس، وكثرت الوفيات المفاجئة، واحتشت القلوب بالحسرة، وبُدء جدياً بالبحث عن تراث الآباء والأجداد المدفون بالكتب القديمة المهترئة.
سارعت مسوخ الألوان بالبحث عن لوح الوصايا دون فائدة، ازدحمت بيوت الحكماء بالمريدين وطالبي المعرفة، فتنوعت أشكال التعاويذ، وراج سوق الشعوذة والتدجيل فالكل يدعي المعرفة والكل ينافس على إعادة الأخضر والأزرق إلى الجينات الرمادية المستولدة عبر الأنابيب البلاستيكية، ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية رخصت الأرواح وتنافرت الأنفس وكثرت جرائم الشرف، والاقتصاد، والسياسة، وأفرغت الأموال من جيوب لتنتفخ في جيوب أخرى، واتسع تصحر القلوب وباتساعه دق ناقوس الخطر وعقدت المؤتمرات الدولية ورفعت الشعارات الطنانة فتناحرت شركات الطيران وراجت أسواق البذات الرسمية والحقائب السوداء، اختبأ الطفلان الرماديان في مغارة بعيداً عن ساحات التنافر والتناحر.
أخرجت الطفلة لوح الوصايا من بين ثناياها
أخرج الطفل صرة الأسرار من قبعته
وقفاً على بعد خطوات من قوس المدى المتآكل
قالت: كن سمائي لأحبل بالأخضر
قال: كوني أرضي كي يهطل الأزرق
مجلة قلم رصاص الثقافية