نضال بشارة |
لا يمكن لشهر تموز أن يحضر كل عام دون أن نستذكر مهرجان الشعر العربي الذي كانت تقيمه “رابطة الخريجين الجامعيين” في مدينة حمص، والذي أوقفت الحرب انعقاده، وكان أهم ملتقى للشعراء العرب من أقطار عدة يصعب حصرهم. كما أننا لا نستطيع التحدث عن حمص دون الحديث عن الشعر والشعراء فيها وعن كمّ المهرجانات التي كانت تقام فيها لهذا الفن من قبل هيئات ثقافية (حكومية وأهلية). ولحمص ألقاب عدة من بينها مدينة “ديك الجن”، ذلك الشاعر العباسي “عبد السلام بن رغبان” الذي صوّر في شعره قتله لحبيبته ” ورد ” التي اتُهمت بهوى غلام له، فعاش نادماً على ما اقترف.
وبات من المعلوم أن قصة ديك الجن قد استلهمها ليس الشعراء الحمامصة وحسب، بل استلهمها أيضاً شعراء عرب، مستخدمين تقنية القناع كوسيلة فنية لقولهم الشعري. ويأتي في مقدمتهم الشاعر اللبناني شوقي بزيع الذي كان من أكثر الشعراء العرب مشاركة وتألقاً في مهرجانات حمص، والذي كتب قصيدة ” حوار مع ديك الجن ” في ديوانه “وردة الندم” وقصيدة “ليلة ديك الجن الأخيرة” في ديوانه “كأني غريبك بين النساء”. ولعل من خلفية هذا اللقب للمدينة، يعتبر كثير من الشعراء وبعض من الأدباء، حمص مدينة الشعر والشعراء. إلاّ أن في هذا الاعتبار شيء من عدم الدقة وإن كان ينطوي على ملامح كثيرة من حقيقة هذه المدينة في هذا الحقل الإبداعي. وعلى الرغم من ذلك إن قلنا حمص مدينة شعر أعتقد أننا نكون قد اقتربنا أكثر من الدقة، ولم نحصر الإبداع الشعري بها وحدها، فثمة مدن سورية أخرى تتميز بالإبداع الشعري وتنافسها فيه على هذا النحو أو ذاك، كمدينتي “سلَمْيَة” و”عامودا”. فنحن في التعميم نقع تحت سطوة كلامنا اليومي، وننأى عن الدقة والمعنى الصحيح. إذاً يصح فيها مدينة شعر لا مدينة الشعر، وإن كثر فيها عدد الشعراء (ذكوراً وإناثاً) وبأجيال متلاحقة، لأنها إلى جانب ذلك مدينة مسرح وموسيقى بامتياز، وإن كان الإبداع المسرحي فيها الأكثر إنتاجاً وتميزاً وتوثيقاً من الإبداع الموسيقي، إذ تعتبر حمص وفق كتاب المسرحي د. هيثم يحيى الخواجة (حركة المسرح في حمص) أول مدينة سورية عرفت المسرح بعد اثني عشرة عاماً من ظهوره في لبنان، وذلك العام 1860 أي قبل الريادة الثانية للمسرح العربي التي تحققت على يدي “أبو خليل القباني” العام 1867.
تفسير لبناني
وفي محاولة البحث عن تفسير لماذا حمص مدينة شعر وشعراء، وقبل ذلك، نشير إلى أن ما يميز شعراء مدينة حمص في العقود الأربعة الماضية أن معظم المسابقات التي تقام لفن الشعر، سواء في سوريا أو في الأقطار العربية، يكون دائماً فيها لهم جائزة أو أكثر. لنبدأ أولاً بالاطلاّع على رأي من خارجها، فنقرأ ما كتبه الشاعر شوقي بزيع في كتابه النثري الأول ( أبواب خلفية، دار الآداب العام 2005) الذي ضم مجموعة من مقالاته، إذ تحدث في مقالة بعنوان: “في مديح الرّيح” عن علاقة الريّح بالشعر، وقد اختتمها بالقول: ” الشاعريَّات العظيمة تستند إلى رياح عظيمة. وهي غالباً ما تأتي تبعاً لذلك من الريف أو من المدن الريفية المفتوحة بأكثر من مهبّ. ولا أعرف لماذا أراني أتذكر مدينة حمص السوريَة كلما تحدثت عن الريّح. فهذه المدينة واقعةٌ في أول الامتداد الصحراوي الذي ينفرج عنه المضيق الواقع بين سلسلتي جبال اللاَّذقية وعكّار. ولأنها كذلك فهي عرضة لكافّة أنواع الرّياح التي تحملها الفصول الأربعة. الأشجار عند مداخل المدينة محنيّة الظهور تحت قبضة الريّح التي لا تهدأ. أهو من قبيل المصادفة إذاً أن تكون حمص من بين أكثر المدن العربية إنجاباً للشعراء واحتفاءً بالشعر!”.
طيبة حرة
وإن كانت حمص قد تجلت جغرافياً وكذلك بعض رموزها التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفلكلورية في قصائد بعض شعرائها، وتمايزت بعض القصائد تبعاً للقدرات الإبداعية لأصحابها من الشعراء. فلا بد أن تتجلى بشكل مغاير في قصائد شعرائها بعد ما عانته جرّاء هذه الحرب. وتحضر في مقدمة قصائد ما قبل الحرب، القصيدة الشهيرة << مدينتي>> للشاعر الراحل عبد الباسط الصوفي (1931- 1960) في ديوانه “أبيات ريفية” التي يقول مطلعها ” مدينتي. لا تملكُ الذّرَهْ/ مدينتي، طيبةُ، حرّهْ….”، وكذلك قصيدة “مفردٌ مثل قلبي” للشاعر عبد القادر الحصني التي ظل عشاق شعره يطالبونه بها في بعض الأماسي وكانوا يُسرّون بها أكثر، عندما يقرأها من تلقاء ذاته. كما تجلت حمص بنكهة متميزة وفريدة في أكثر من قصيدة للشاعر حسان الجودي، منها ” حمص الساعة السادسة ” في ديوانه ” حصاد الماء”.
ونشير إلى أن ثمة محاولتين لتأريخ حركة الشعر فيها، منها (كتاب حركة الشعر في حمص) لمحمد غازي التدمري، وكتاب (من المشهد الشعري نهاية القرن العشرين في حمص ) للشاعرين “د. شاكر مطلق، ومحمد علاء الدين عبد المولى”، الذي يعتبر المحاولة الأكثر منهجية ودقة وفنية، إذ حاول الكتاب توثيق، ولو بشكل جزئي، للمشهد الشعري في المدينة، فقدم صورة موجزة ومكثفة عن حياتهم وأعمالهم وعن إصداراتهم، وبعض ما نشر حولها كإضاءات لمقوماتها الجمالية.
حلف الشمس
ونترك التأريخ لحركة الشعر فيها، ونعود لنمضي باتجاه محاولة ثانية لتفسير مقولة (حمص مدينة شعر) لعل فيها جوانب أخرى، أدبية وتاريخية، فالناقد الأدبي حنا عبود صاحب كتاب ” نظرية في علم الاقتصاد الأدبي ” وابن لهذه المدينة، وعاشق لها، يقول : حمص مدينة شعر لأن فيها تأسست ( المدرسة الشامية ) التي خرج منها كبار شعراء العربية الذين قاموا بتجديد الشعر. والتجديد في نظري ليس ما قال به النقاد ومؤرخو الأدب العربي، بل هو (الفخامة والكرامة والروعة) الذي قدمته المدرسة الشامية التي تكونت في حمص, والتي تتلمذ على يدي شعرائها شعراء العربية أصحاب القامات الإبداعية الكبيرة (المتنبي, أبو تمام, البحتري, أبو فراس الحمداني، المعري – في ضوء أن معرة النعمان كانت معرة حمص- ومن تأثر بهم) وهم وحدهم من أُلفت عنهم الكتب. ويفيدنا الناقد عبود بالنصيحة التي كانت تقدّم للشاعر إذا ما قرأت أخبار أبي تمام أو البحتري أو المتنبي، تتجسد بالقول الآتي ” اذهب إلى حمص وتعلّم الشعر”. ويتساءل عبود: ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن حمص قاحلة شعرياً أم أنها تمتلك ثروة هائلة من الشعر ولماذا لم يشتهر أبو تمام والبحتري وبقية الشعراء إلا بعد أن أقاموا فترة في حمص. وحتى في كتاب (العمدة) لابن رشيق القيرواني نجد ذلك. وفي كتاب شوقي ضيف (العصر العباسي الأول).
السلم الاجتماعي
ويعزز الناقد حنا عبود وجهة نظره بأن حمص تاريخياً هي المدينة الوحيدة في العالم لم يجتحها العسكر الغزاة مع أنها مدينة على درب العسكر, ما وفّر لها نوعاً من الاستقرار, والسبب الثاني أنها كانت ذات طبيعة اجتماعية متآلفة، ما جعل الظاهرة الشعرية تستمر فترة أطول من المدن التي تجتاحها الجيوش, والسبب الثالث السلم الاجتماعي. فقد كان حكامها يدفعون للجيوش كل ما يريدون لتأمين السلم الاجتماعي داخل المدينة. ويمضي الناقد عبود أبعد من ذلك بالقول حمص وحدها التي أنتج أبناؤها أدباً مهجرياً ومعظم الأندية التي تكونت في المهجر حملت اسم (النادي الحمصي)، وكانت حمص مرة بحدودها الجغرافية كمدينة ومرة (بلاد الشام) فهي بحكم تأسيسها ” حلف الشمس” ومنه جاءت تسمية بلاد الشام، وهي التي أدارت بلاد الشام لفترة طويلة، كل ذلك جعل هذه المدينة تعيش في أمن وسلام وكان ذلك سبباً إلى ظهور الشعراء الكبار بعد تتلمذهم فيها كما أسلفنا.
ليس أخيراً
من المؤكد أن حمص فقدت السلم الاجتماعي بسبب الحرب، كما باقي المدن السورية، وأن هذا لا بد سيترك أثره على الشعراء وعلى طبيعة الشعر مبنىً ومعنىً، وهذا ما يدفعنا للخوف ليس على مصير الشعر فقط، بل وعلى باقي الفنون الإبداعية فيها، مع إن التاريخ علمنا أن الحروب تمضي ولا يبقى سوى ما أبدعه الإنسان من فنون.
شاعر وصحفي سوري | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية