رغم كثرة عدد المتحدثين باللغة العربية (422 مليون شخص حول العالم يزداد سنوياً)، التي تُعتبر من أكثر اللغات انتشاراً، إلا أنها لا زالت تفقد دورها في حياتنا يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، وقد ساهمت أسباب كثيرة بتراجع اللغة العربية الفصحى لصالح اللهجات العاميّة المتداولة، وبالتأكيد من هذه الأسباب العصرية انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أدت إلى نشوء “لغة هجينة” إذا صحت التسمية، هي مزيج من العربية واللهجات العامية مُطعمة بمفردات من لغات أجنبية حتى صارت كنوع من البريستيج.
فيما مضى كان مدرس اللغة العربية في سورية يعطي الدروس باللغة العربية الفصحى، ويمنع الطلاب من الحديث إلا باللغة الفصحى خلال حصة اللغة العربية ثم رويداً رويداً تلاشى هذا الأمر وأصبح المدرس الذي يتحدث بالفصحى يتعرض للسخرية من الطلاب أنفسهم. ليس المُدرس وحسب إنما أي شخص يتحدث الفصحى في الشارع يصير مثاراً للسخرية رغم جماليات اللغة العربية، لكنها ظلت لغة للأدب والكتب والصحف والخطابات فقط، وصار مؤخراً من يستخدم بعض الكلمات الفصحى يُشار إليه أنه “مثقف”، حتى وإن كانت لغته غير سليمة.
كنت في محطة القطارات الرئيسية في العاصمة البلجيكية بروكسل، فاستوقفتني امرأة عربية الملامح ومعها ابنتها، وبعد التحية سألتني سؤالاً بالفرنسية، فطلبت منها التحدث بالعربية، فكررت السؤال بعربية لم أفهم منها شيئاً، حاولت التفاهم معها بالفصحى لكن دون جدوى، ثم أعادت السؤال بإنكليزية مُكسرة ففهمت أنها تسألني عن السوق المغربية فأرشدتها إليه.
دارت في ذهني أسئلة كثيرة حينها، أبرزها ما جدوى لغة لا يفهم حتى المتحدثين بها حتى على بعضهم؟ وفكرت لو أننا تعلمنا التركية من المحتل العثماني والفرنسية من المستعمر الفرنسي كنا أكتسبنا لغات عدة، شأننا شأن المهاجرين الأفارقة الذين يجيدون الفرنسية، فأي لغة بالعالم وإن كان لا يتحدث فيها سوى ألف شخص هي مكسب للإنسان في النهاية، حتماً لست مع إضاعة هوية اللغة الأم لكن هنا في المهجر سيشعر المرء في بأهمية اللغات وضرورة تعلمها، ونندم لإهمالنا اللغات الأخرى لصالح العربية التي لسنا نجيد أصولها، حيث اكتشفنا متأخرين أننا “ما طالنا عنب الشام ولا بلح اليمن”، لكن هذا الندم كان في وقت لا ينفع فيه الندم.
يعاني كبار السن من المهاجرين بل حتى الشباب من صعوبة تعلم لغات البلدان التي يقيمون فيها، واللغة هي السبيل الأول للاندماج في المجتمع، بلا لغة أنت شخص أخرس هنا، بينما يتعلم الأطفال اللغة بسرعة بل أن أغلب الأطفال لا يعرفون العربية مما دفع أهاليهم هنا إلى تسجيلهم في دورات لتعلم القرآن في المساجد لغاية تعلم اللغة العربية، وصار بعض الأهالي يعتمدون على أطفالهم في الترجمة عند الحديث مع شخص أجنبي.
يُقبل البلجيكيون اليوم على تعلم اللغة العربية وقامت مدارس تعليم اللغات بإحداث صفوف خاصة بتعليم اللغة العربية، ولا تستغرب إن عرفت أن المقبلين على تعلم اللغة العربية تجاوزت أعمار أغلبهم الخمسين، وجاء ذلك نتيجة ازدياد عدد المهاجرين وحباً منهم في كسب العلم والمعارف يظل إصرارهم مستمراً على التعلم حتى الرمق الأخير من حياتهم، ولا يؤمنون بالمثل العربي القائل: “بعد ما شاب أخذوه ع الكُتّاب”.
مجلة قلم رصاص الثقافية
موضوع مهم بالفعل فلا شكّ بإن لغة الضادّ تمرّ بأزمة عميقة تتسبّبها عدة عناصر وأهمها باعتبار اللغة قوام الثقافة ككل هو أزمة الثقافة العربية نفسها وتراجع مستوى القبول الثقافي عربياً. ورغم تواجد وسائل تسهّل متابعة المحتوى الثقافي والإطلاع عليه لكننا على الأغلب نقوم باستخدام أغلب الوسائل المُحدَّثة لتثبيت ذات طرق التفكير البالية الراسخة لدينا والتحصّن والتمدفع من ورائها لا بل محاولة إقناع الآخر بها. بذلك لا جديد سواء بالوسائل الجديدة أو القديمة طالما لا تحرّك الذهن ساكناً أو تسعى نحوه. برأيي مُسبِّب أزمة اللغة العربية الرئيسي مُتحدِّثو اللغة أنفسهم، (نحن) للأسف لمْ ننتبه بعد إلى أهمية عامل الثقافة في البروز الحضاري سواء الخشن أو السلس – وربما تصير اللغة الإنكليزية أفضل مثال إن تمّ ربطها في هذا السياق أو جرّها فيه فمن الصعب حقيقة اعتبار الجزيرة البريطانية امبراطورية لا تغيب عنها الشمس وكون اللغة الإنكليزية الأولى عالمياً تلاقياً من باب المصادفة. الصين انتبهت إلى عامل الثقافة وأهمية نشرها كوسيلة قوة ناعمة. وبذلك يُلاحَظ انتشار عدد كبير في الآونة الأخيرة وفي مناطق عدة حول العالم لمعهد “كونفوشيوس” المُتخصِّص بنشر الثقافة الصينية وتقديم دورات تعلّم اللغة الصينية. وعلى الرغم من صحة الإستنتاج المطروح بأننا “لمْ نطل عنب الشام ولا بلح اليمن” فإن لغة الضادّ لمْ تطل شيئاً هي الأخرى. لا أرى بُدّاً سوى أن نستمر في طريق الصمود اللغوي -إن وُفِّقت التسمية- فمحاولة إحياء اللغة العربية بأكبر قدر ممكن فاللغة العربية هي دون مبالغة آخر “بوتقة انتماء” بقيت لنا في هذا المخاض الوجوديّ الدائر حول هويتنا. ما يكمن في نزعة إحياء اللغة العربية تجديد اللغة، تدويرها، إخراجها من القالب المرسوم لها بشكلٍ جائر منذ ألف دهر فاللغة العربية على عكس ما يظنه كثيرون (منهم مُتحدِّثوها) على وسعها لغة مرنة وقابلة للتطوير وإعادة التشكيل على نحوٍ بالغ. وتقبلوا احترامي!