الرئيسية » رصاص خشن » ترجمة مقابلة نادرة مع الشهيد غسان كنفاني وحديث حول أحداث أيلول

ترجمة مقابلة نادرة مع الشهيد غسان كنفاني وحديث حول أحداث أيلول

مُقابلة نادرة أجرتها مجلة New Left Review مع الأديب الشهيد غسان كنفاني عام 1971 تنشر لأول مرّة باللغة العربية (ترجمة فؤاد ديب) يشرح غسان كنفاني في معرض إجاباته أزمة حركة المقاومة الفلسطينية وتراجعها في الأردن ويتحدث عن دورها المتصاعد في قطاع غزة ومحاولات البعض في الضفة الغربية الى التساوق والانجرار مع العدو الصهيوني والانظمة الرجعية في إطار ما يسمى تأسيس مشروع الكيان الفلسطيني أو “الدولة الفلسطينية في الضفة” بهدف تصفية القضية خاصة بعد تبني خطة روجرز.

وفي المقابلة معلومات ومواقف وحقائق حول “أحداث سبتمبر” وعرض صريح لإشكاليات العلاقة مع مصر الناصريّة والنظام الأردني. كما يشير كنفاني الى الخلاف مع مواقف بعض القوى اليسارية داخل الكيان الصهيوني (حركة ماتسبن) وشعار التحالف مع “البروليتاريا الاسرائيلية”.

الجبهة الشعبية وأزمة سبتمبر

اشتهرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خارج العالم العربي بعمليات خطف الطائرات في أيلول / سبتمبر 1970 وقد وجُهت لها نتيجة هذه العمليات انتقادات كثيرة وقد جاءت بعض هذه الانتقادات من الطبقة البرجوازية.  لكني هنا أودّ أن أثير نوعين آخرين من الانتقادات، أولهما من قبل أشخاص داخل المقاومة الفلسطينية نفسها، مثل المتحدث باسم اللجنة المركزية كامل رضوان، يقولون أن عمليات الخطف هذه قدّمت للملك حسين ذريعةً لمهاجمة المقاومة؛ في وقت لم يكن ليستطيع ذلك ولكنه فعلها، أما الانتقاد الثاني فهو من قبل أشخاص خارج  المقاومة الفلسطينية. كانت حجتهم أن عمليات الاختطاف هذه أعطت إحساساً وهمياً بالقوة والثقة لدى الجماهير الفلسطينية قبل وقت طويل من امتلاكها لهذه القوة التنظيمية والعسكرية الحقيقية بالإضافة لكونها – أي عمليات الاختطاف  – شكّلت  بديلاً عن تنظيم الجماهير، وكانت هذه العمليات تصنع وتشجع الخيال أكثر على الرغم من ذلك لم تكن هذه الانتقادات لتشكل إنكاراً أن لهذه العمليات أثراً إيجابياً من خلال كسبها جمهورا عالمياً على شاشات التلفزيون، هذه العمليات التي شرحت لهذا الجمهور الغرض من المقاومة الفلسطينية، وهذه النقطة ليست موضع شك ولكن!

 هل تدافع الآن عن عمليات الاختطاف؟

أولاً وقبل كل شيء، أقدر حقيقة أنك ترفض هذه الأخلاقيات البرجوازية والانصياع للقانون الدولي، هذا القانون الذي كان سبباً في مأساتنا وقبل أن أجيب عن أسئلتك لابد من الحديث بشكل عام عن هذا النوع من العمليات.

لقد قلنا دائماً أننا لا نخطف الطائرات لأننا نحب ماركة بوينغ 707 بل نفعل ذلك لأسباب محددة في وقت محدد ضد عدو محدد معين لأنه سيكون من السخرية بمكان اختطاف الطائرات في الوقت الحاضر وإنزالها في القاهرة على سبيل المثال، أو في الأردن هذا لن يكون له أي معنى الآن.

ولكن عليك أن تحلل الوضع السياسي في حينها أي في الوقت الذي قمنا فيه بهذه العمليات وطبيعة الأهداف التي أردنا تحقيقها. ولنتذكر أنه وفي 23 يوليو / تموز قَبِلَ عبد الناصر بخطة روجرز، وبعد ذلك بأسبوع قبلت الحكومة الأردنية بذلك أيضاً. بهذا يكون قد وضعوا الفلسطينيين على الرّف مرّة أخرى لأنكم إذا كنتم تقرؤون الصحف العربية والعالمية بين 23 يوليو و 6 سبتمبر، سترون أن الشعب الفلسطيني ومرّة أخرى يُعامل بالضبط كما بين عامي 1948 و 1967.

وبدأت الصحف العربية الكتابة حول الحالة “البطولية” للفلسطينيين، لكن أيضاً كيف أن هذه الحالة كانت “مشلولة” وكيف أنه لم يكن هناك أمل لهؤلاء “الأبطال الشجعان”. كانت معنويات شعبنا في الأردن والضفة الغربية وغزة منخفضة للغاية. وعلاوة على ذلك، توجه وفد من قيادة حركة المقاومة الفلسطينية، اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى القاهرة للتفاوض مع عبد الناصر وحكومته، وقد قضوا هناك أياماً وأياماً لمناقشة ما إذا كانت هذه الحكومة ستسمح لنا بإعادة تشغيل البث من مصر مرة أخرى بعد إغلاق إذاعتنا في منتصف آب / أغسطس. ثم اشتكى الوفد إلى جامعة الدول العربية وحاول حملهم على مناقشة هذه المسألة وقبل 23 تموز / يوليو، صورت المقاومة الفلسطينية في الصحافة العربية باعتبارها الأمل الكبير للشعب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه يعتبر جميع العرب أن الجامعة العربية تُمثّل أدنى شكل من أشكال الطموح السياسي، وهي الهيئة السياسية الأكثر شللاً في العالم العربي. الآن هذا الوقت يدل أن لدينا أعلى شكل من أشكال السياسة التي تقترب من “الهدف القذر” لجامعة الدول العربية. ويدّلك هذا على أن الثورة الفلسطينية مُهددة بالتصفية سواء حطم الملك حسين ذلك جسديا أم لا. وكان الجميع – بمن فيهم أولئك الذين انتقدوا عمليات الجبهة الشعبية – مقتنعين بأن تدمير المقاومة جزء أساسي من خطة روجرز.

 أتوافقون على أن ناصر والنظام المصري أيدوا ذلك؟

كان النظام المصري على بعد خطوة واحدة من المشاركة المباشرة في هذا التصفية لأنه لم يكن له اتصال مباشر بالفلسطينيين فقد كان في وضع أكثر أماناً، والطريقة الوحيدة التي يمكن أن يساعد بها النظام المصري الملك حسين كان الصمت عمّا يجري وقد فعل، وبقدر ما يمكن لها قاومت هذه الحكومة ضغط الجماهير العربية.

في الأيام الثلاثة الأولى من القتال في سبتمبر / أيلول لقد كانت الحكومة المصرية وجميع الحكومات العربية الأخرى صامتة، لأنهم اعتقدوا أن المقاومة لا يمكن أن تستمر في الصمود لأكثر من ثلاثة أيام لكنهم بعد ذلك أجبروا على التحرك لأن الجماهير في شوارع مصر وسوريا ولبنان كانوا غاضبين من المجزرة، ومع ذلك نجد أن خمسة آلاف من الضحايا الفلسطينيين سقطوا في عمان بصمت ولم يشتكِ أحد.

خطة “روجرز” تفترض مسبقاً تصفية مقاومتنا، وهذا جرى في جو من الاستسلام الفلسطيني لذلك أولاً وقبل كل شيء وكان لابد من القيام بشيء ما من أجل أن نقول للعالم أننا لن نوضع على الرّف مرة أخرى، وثانياً كي نقول للعالم أن الأيام التي يمكن أن يملي بها العرب على شعبنا الأوامر سوف لن تعود. وعلاوة على ذلك، كانت هناك مسألة الروح المعنوية والقدرة القتالية لشعبنا، ونحن لم نكن لنستطيع أن نترك الأمور على هذا النحو فقد كانت في هذا الوقت المجزرة على الطريق، وحتى لو جلسنا بهدوء على طريق قصر جلالة الملك، وقبلنا يده.

إذن أنت لا تقبل فكرة أن الملك الحسين لم يكن متأكداً مما يجب القيام به ولكن الجيش أجبره على التحرك؟!

على الإطلاق لا. هذا هراء تماماً. صحيح أن جزءاً من حركة المقاومة ما زال يعتقد بإمكانية “تحييد” النظام الأردني ولكن هذا هراء أيضاً. أما الحجة القائلة بأن عمليات الاختطاف استفزت وسرّعت هجوم الملك حسين، فإن الجواب السريع على ذلك هو أن النظام الأردني قد أوقف بالفعل نشاط المقاومة جنوبي البحر الميت، وأوقف القوات باتجاه إيلات، ومنع وحداتنا التي تهاجم سد نهارين في شمال الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، وضع الجيش الأردني الألغام في معظم النقاط التي يعبر فيها المقاتلون نهر الأردن، وأجبر الفدائيين على المرور عبر ممرات محددة معينة؛ وكانت هذه الممرات كمائن، كانوا يرسلوننا كي نموت بجميع الأحوال، كل هذا كان يحدث قبل مجزرة سبتمبر. لقد كانت المجزرة قائمة لكن بشكل آخر، كان اشتباكاً حقيقياً يحدث في كل وقت وكانوا يمنعوننا من ممارسة سبب وجودنا ويمنعوننا من شن غارات ضد ” إسرائيل ” ويقمعون أنشطتنا السياسية في المدن، لذلك فإن أعمالنا، بما في ذلك خطف الطائرات، لم تكن استفزازات بقدر ما كانت حركة ثورة تحاول الهروب من دائرة حوصرت داخلها.

ماذا فعلتم ازاء ذلك ؟

 كانت جميع أنشطتنا آنذاك هي محاولة للخروج من وضعنا. فعلى سبيل المثال نظّمنا مظاهرات في عمان وكانوا يهتفون “يسقط ناصر وتسقط مصر”. ربما كان هذا خطأ، لكنها كانت واحدة من الطرق العديدة التي حاولنا فيها الخروج من الدائرة، كان واضحاً أن الملك حسين سيهاجم المقاومة بمجرد أن يقبل خطة “روجرز”، وبعد كل ذلك أنت تمتلك خيارين: إما أن تنتظر حتى يهاجمك أو أن تبادر بالهجوم عليه أولاً.

لكن يبدو أنه في كلا الحالتين لم تكن لديكم النية الإطاحة بالملك حسين، ولم تتخيلوا أبداً أنكم تستطيعون ذلك. ألم يكن هدفكم أساساً الحفاظ على الوضع التنظيمي للمقاومة، أو لم تكن هذه هي الفكرة من وراء عمليات الاختطاف؟

يجب عليك عدم عزل عمليات الاختطاف من السياق السياسي الكلي فعلى سبيل المثال، أرسلت “فتح ” قاذفات صواريخ إلى غور صافي تحت البحر الميت، وفجرت مصانع البوتاسيوم. كنا جميعاً نحاول كسر الطوق لإعطاء الجماهير الفلسطينية المزيد من الأمل، وكي نقول إن المعركة مستمرة. أردنا الضغط على الحكومة الأردنية لتأجيل هجومها علينا.  فعلاقتنا مع الحكومة الأردنية لم تكن تقوم على قناعات مشتركة، بل على الضغط فقط، لم يكن لدينا أرضية مشتركة معهم،  إنها مسألة توازن قوى ، لقد كانت جميع أعمالنا هي شكل من أشكال الضغط بدءاً من الخطأ الكبير في الذهاب إلى جامعة الدول العربية إلى عمليات الاختطاف نفسها (التي كانت أعلى شكل من أشكال الضغط)، البعض كانت حساباته  خاطئة بشكل سلبي،  البعض الآخر كان إيجابياً، لكن من ناحية أخرى كان هناك بالتأكيد أفراد ومنظمات داخل المقاومة  يعتقدون بإمكانية الإطاحة بالملك لكنهم كانوا على خطأ فهل تستطيع الاعتقاد بإمكانية الإطاحة بالملك من خلال انتظارك له كي يهاجمك، نعم لقد كان الاعتقاد أن الشعب سيتوحد من خلال الاعتماد الأولي على موقفٍ  دفاعي.

لقد كانت هذه هي المعضلة بالنسبة لنا، نعم لقد كنّا في أزمة، كذلك كانت المقاومة وجميع الحكومات العسكرية العربية في أزمة لقد كانت هذ الأزمة ثمناً لخطة “روجرز”. فلو قررنا محاربة الملك حسين كان يجب علينا أن نختار الوقت والمكان المناسبين لكنه هاجمنا لهذا لم يكن لدينا خيار، لقد كان علينا أن نقاتل في وقت ومكان من اختياره، بهذه الصورة كانت عمليات الاختطاف جزءاً من فسيفساء شديد الخطورة شكل الخريطة العربية والفلسطينية منذ تموز / يوليو 1970 وحتى الآن لقد كان هناك الكثير من العوامل الأخرى أيضاً، فلقد حُشرنا في الزاوية، وكان لدينا طريقتان ممكنتان للخروج، إما أن نتمكن من الدفاع عن أنفسنا حتى النصر- ضد الملك حسين – أو أننا يمكن أن “نفقد المعركة إذا فزنا بها ” إذا نحن هاجمنا الملك حسين. لكن النتيجة لم تقرر من قبلنا فقط، بل قررت من قبل الطرف الآخر حيث كان لديهم خطط أكثر منا وهنا يجب عليك أن تتذكر أن الملك حسين كان يحتاج أن يثبت للأمريكيين أنهم لا يحتاجون إلى إقامة دولة فلسطينية. لقد كان الأميركيون يتساءلون عما إذا كانوا سيحضرون ضابطاً من طراز “سوهارتو” ليحل محل الملك حسين في حال حصول انقلاب في عمان حيث يُسهل قيام دولة فلسطينية هناك،  كان الإسرائيليون يناقشون ذلك أيضاً أما الملك فقد أراد أن يسترجع هيبته – وهذا ما فعله – لهذا غيّر ( الرئيس الأمريكي ) نيكسون رأيه وبدأ الأمريكيون يعتقدون مرة أخرى أن الملك حسين قادر على التعامل مع الوضع.

أما بالنسبة لعمليات الاختطاف فإن أهميتها النفسية في تلك المرحلة من مراحل الثورة كانت أكبر بكثير من أهميتها العسكرية، أما الآن فلو أننا في المرحلة النهائية من الثورة، أو حتى في المراحل الأولى المتقدمة من الثورة وقمنا باختطاف الطائرات، لكنت أول من سيندد بها، لكن في مرحلة الإعداد للثورة كان للعمليات العسكرية أهمية نفسية.

ألا زلت تعتقد أن تنفيذ عمليات الاختطاف كانت صحيحة ؟

بشكل عام، أعتقد أن هذه العمليات كانت صحيحة، ربما ارتكبنا بعض الأخطاء التكتيكية هنا أو هناك وربما كان ينبغي علينا أن نجعل المقاومة الفلسطينية بأكملها تتقاسم بشكل أكبر المسؤولية عن هذه العمليات ومن ثم قرروا بعد ساعتين أن يطلقوا سراح الطائرات، ربما كان ينبغي علينا إطلاق سراحها .

لا ينبغي علينا أن نكون عنيدين جداً. إذ لا يمكنك أن تتخيل ماذا كان يعني كل هذا للشعب في ذلك الوقت. أنت أثرت مسألة فيما إذا كانت عمليات الاختطاف قد خلقت مناخاً بين الجماهير الفلسطينية لم تتمكن حركة المقاومة من استيعابه والتقاطه وبالتالي تنظيمه، نعم قد تكون هذه هي المسألة، لكن حتى لو كانت هذه المسألة صحيحة  فقد قاتلنا لمدة اثني عشر يوماً في سبتمبر وبذلك جعلنا الجيش الأردني يقاتل  أطول حرب في تاريخه بسبب ما فعلناه.

 في أيلول / سبتمبر، رأى كثير من المعلقين أن المقاومة الفلسطينية لا يمكن أن تنتصر إلا إذا انشق الجيش الأردني نفسه والتحق جزء منه بالمقاومة، أو إذا تدخل نظام عربي خارجي – سوريا أو العراق – وساعد بذلك هل كنتم تتوقعون حدوث أي من هذه الاحتمالات؟

 لا أعتقد أن أياً من هذين الأمرين كان من الممكن أن يعطيا المقاومة انتصاراً، فظروف حرب العصابات مختلفة، وما هو مهم من عمل معين هو الهدف من هذا العمل. كان هدف النظام الأردني إنهاء المقاومة تماماً. لكن هدف المقاومة الفلسطينية لم يكن الاطاحة بالنظام الأردني بل مجرد الضغط عليه و لم ينجح أي من هذين الهدفين لذلك لم يفز أحد حقاً، بالطبع إلى حد ما، وكان علينا أن نستسلم لبعض النقاط  وأن نعود للعمل  تحت الأرض من جديد لكن المعركة لا تزال مستمرة و التراجع للنشاط  تحت الأرض أو إلى الجبال ليس سوى جانباً تكتيكياً لإعادة توازن القوى.

أنت لا تنكر بعد أحداث سبتمبر أن إمكانية العمليات ضد “إسرائيل” من الأردن وغرفة العمليات السياسية العسكرية للمقاومة كي تستطيع المناورة من داخل الأردن قد تقلصت بشكل كبير؟ ألا تستمر المملكة الهاشمية في محاولتها نزع سلاح الميليشيات في عمان والتحكم بالسيطرة المباشرة على مخيمات اللاجئين وغير ذلك من المواقف القوية؟

أعرف، لا أنكر أن النظام الأردني قد فاز ببعض الأرض، وأجبرنا على التراجع. ولكن أود أن أشير هنا إلى أمرين، لوضع أحداث أيلول / سبتمبر في سياقهما الطبيعي.

لقد نجح النظام الأردني تقريباً في منعنا من شن أي غارات ضد “إسرائيل” قبل سبتمبر / أيلول  وهذا لم يكن نتيجة سبتمبر، ولكنه أحد  العوامل التي أدت إلى سبتمبر. كان علينا أن نقول لشعبنا أننا نفعل شيئا؛ لم نتمكن من الجلوس في عمان وعدم فعل أي شيء، ونحن الآن في الجبال، في مرحلة تحضيرية، واتخذت الثورة شكلاً أكثر واقعية مما كانت عليه عندما ظن الناس أنها في مرحلة متقدمة جداً. أنا ضد القول بأننا هُزمنا، لأنه في الماضي، كنا نبالغ بما لدينا من قوة حقيقية، لدينا الآن حجم متناسب مع قوتنا.

ولم يكن لدينا مجال للمناورة أمام شعبنا والرأي العام العالمي، ولم يكن لبعض القادة مثل هذه القاعة حتى أمام مقاتليهم. وسوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لاستعادة توازن القوى السابق مع الحكومة الأردنية وسنواصل التراجع إلى أن نحقق الفهم الصحيح لقوتنا. هناك الكثير من الأمثلة في التاريخ عن أناسٍ عاشوا مع بنادقهم في الجبال، أن كمين لشاحنة وإطلاق النار على الجندي المعادي، وتحقيق أي شيء آخر. هذه هي المسألة وهناك نقاش جاري داخل المقاومة حوله. بل إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تُتهم بعدم الرغبة في تسليم أسلحة الميليشيات، في الواقع لا أعتقد أن مقاتلاً من ” فتح ” سيسلم أسلحته.

إلى أي مدى غيرت الجبهة الشعبية استراتيجيتها منذ سبتمبر؟ وكان جورج حبش قد ذكر في كانون الثاني / يناير أن الوقت قد حان للإطاحة بالملكية الهاشمية. هل هذا صحيح؟

لقد أصرت الجبهة الشعبية دائماً على أن لدينا أربعة أعداء متساوين: “إسرائيل”، الصهيونية العالمية، الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والرجعية العربية. إن الإطاحة بهذه الأنظمة العربية الرجعية هي جزء من استراتيجيتنا، وهي جزء من تحرير فلسطين. يجب أن تكون الإطاحة بالنظام الأردني جزءاً من برنامج التحرر الوطني فلسطيني. وعلينا أن نفعل ذلك، ولكن ليس بالضرورة غداً. لقد أصرينا دائماً على ضرورة القيام بذلك، ولكنه يجب أن يشّكل جزءاً من خط استراتيجي عام.

لقد انقضى الآن خمسة أشهر على أحداث أيلول / سبتمبر ما هي، برأيك الآثار على الشعب الفلسطيني؟

من الطبيعي أن يغادر البعض أثناء فترات القتال الشاق. إن فترات النضال المتقدمة جذابة للناس الذين ينضمون لعدم وجود ثمن للانضمام إلى الثورة. ويبقون في المنزل، ويواصلون الذهاب إلى وظائفهم؛ وإذا كان هناك شخص يدرس في جامعة دمشق على سبيل المثال، فإنه يمكن أن يستنكف سنة واحدة ويعمل مع المقاومة. من ناحية أخرى، فإن صدمة مثل سبتمبر بلورت قوة الثورة، لأنها أجبرتها على العيش في الجبال. هناك الآن عناصر من الكوماندوز يعيشون في غابات عجلون في شمال الأردن؛ وهم يعيشون في الكهوف، مع محدودية المياه والغذاء، وقليل من الذخيرة. وفي هذه الحالة، لا يمكننا أن نتوقع أن الآلاف الذين ذهبوا حول عمان يرتدون الكاكي ويحملون كلاشنيكوف سوف يعيشون هذا النوع من الحياة.

في المدن التنظيم والتجنيد مختلف. فقد كان لدينا مكتب معروف، ويمكننا توظيف وتدريب الناس علناً في المخيمات. الآن لدينا علاقات مختلفة مع الجماهير: نحن لا نرتدي الكاكي ونمشي في الشارع، نحن لا نلقي الخطب في المخيمات، علينا أن نعمل بطريقة مختلفة، وهذا هو بالضبط الجزء الضروري. على الرغم من أن الوضع صعب في الجبال، والوضع هو أكثر صعوبة في المدن. والكثير من الناس لديهم “شعور البرجوازية المتسرع ” لكن نحن الآن في مرحلة التراجع عسكرياً وسياسياً وهذا ليس خطأ وليس خطراً ولكنه يسبب مشاكل نفسية، بسبب الحاجة إلى إبقاء الناس معنا.

وتدعو بعض العناصر في الضفة الغربية الآن إلى إقامة دولة فلسطينية. كنا نعلم أنهم كانوا يناقشون هذه الخطة بشكل خاص بين بعضهم البعض لمدة ثلاث سنوات بعد حرب يونيو / حزيران 1967، وأنهم كانوا على اتصال مع الإسرائيليين ومع الرجعية العربية ومع الإمبرياليين. ولم يجرؤوا على إعلان هذا المشروع علناً إلا بعد أن أجبرت حركة المقاومة على الرجوع إلى الوراء. في الوقت نفسه، جعلت الأحداث التي وقعت في أيلول / سبتمبر الجماهير في الضفة الغربية على علم بما يعنيه عودة الملك حسين مرة أخرى، وما يترتب على ذلك من رد فعل شعب تحت الاحتلال دون تنظيم سليم وهو القول ” حسين مرة أخرى “. وبالنسبة للضفة الغربية ستكون الدولة الفلسطينية أفضل من نظام الملك حسين مجددا وهذا رد فعل مؤقت جداً، وناتج عن صدمة نفسية.

غزة قصة أخرى تماماً. إذ أن المقاومة في الضفة الغربية والضفة الشرقية كانت في حالة دفاع لكنها تصاعدت فجأة في غزة وبطريقة رائعة. فالجبهة الشعبية لها أقوى نفوذ في غزة ولذلك كان لنا فعلنا، واسمح لي أن أذكر حالة واحدة محددة، إن يوسف الخطيب “أبو دهمان” كان رئيس العمليات العسكرية للجبهة الشعبية في غزة واستشهد في بداية كانون الأول / ديسمبر ومع ذلك ولمدة ستة أيام متتالية كانت هناك إضرابات مستمرة ومظاهرات جماهيرية في غزة  لذلك كان الجميع يعرفون أن الرجال لا يزالون يقاتلون. وأدى ذلك إلى رفع مستوى العمل في غزة على الرغم من أن إصاباتنا أصبحت أعلى مما كانت عليه من قبل

ما الذي جعل غزة متشددة أكثر ؟

يبلغ عدد سكان غزة 360،000 نسمة. معظمهم من اللاجئين الفلسطينيين. في غزة يعرف الناس السلاح فقد تم تدريبهم من قبل جيش التحرير الشعبي في ظل الإدارة المصرية، على عكس الضفة الغربية.  وهناك عامل آخر وهو أن المصريين قمعوا الحركة القومية العربية في غزة لكن ليس إلى الحد الذي فعله الملك حسين في الضفة الغربية فعندما احتُلت غزة كانت خلايا الفدائيين ما تزال هناك، في حين سلّم الملك حسين الضفة الغربية للإسرائيليين أرضاً ‘نظيفة’، كأنه وضعها بنفسه، لم تكن هناك خلية واحدة، أما في غزة فقد كان لدينا الحد الأدنى من البنية لنبدأ، ثم أن هناك أيضاً عامل نفسي، فغزة محاصرة غرباً ببحر، وجنوب سيناء، شرقاً من النقب، ومن الشمال من قبل “إسرائيل”

 الفلسطينيون في غزة محاصرون نفسياً، واعتادوا الصعوبات ثم أن الاتصالات في الضفة الغربية كانت أسهل بكثير في الأشهر الأولى من الاحتلال فقد كان من الأسهل إرسال الأموال والرجال والأسلحة إلى المنطقة، لقد استخدم الناس في الضفة الغربية الأساليب الأسهل، ولم يتمكنوا من مقاومة الإجراءات الإسرائيلية المضادة. اما في غزة كانت أكثر صرامة وأكثر مهنية. كان هناك عامل آخر هو أن النظام الأردني في عمان لا يزال يدفع رواتب المعلمين والمفتشين وموظفي الدولة وما شابه ذلك؛ هذا هو السبيل الوحيد للأنظمة الرجعية من أجل الحفاظ على ولاء هؤلاء الناس. كما دفع “الإسرائيليون” رواتب لهؤلاء الأشخاص. وليس صحيحاً أن معظمهم كانوا ضد المقاومة، لكنهم لم يكونوا في عجلة من أمرهم، أما في قطاع غزة فالناس يتعرضون لضغوط أكبر

الآن أودّ أن أشير إلى بعض الملاحظات العامة، في كل ثورة هناك موجة أولية من الحماس الذي يتلاشى بعد فترة، لأنها ليست عميقة الجذور. وأعتقد أن موجتنا الأولى بلغت ذروتها في معركة الكرامة في آذار / مارس 1968؛ وبعد ذلك، بدأنا في التراجع، لأننا كنا نعود إلى أبعادنا الحقيقية، في مثل هذه الفترات من الانتكاس،  دائماً هناك انقسامات، مبالغة، رومانسية، الميول إلى الفردية وتحول الثورة إلى أسطورة وهلم جرا. هذه هي أمراض العالم المتخلف، ويعبرون عن أنفسهم فيما بعد في فترة لا يشارك فيها أحد في أي عمل ثوري حقيقي، ولكن مع ذلك يعتبر المرء أن الثورة إذا لم تتطور نتيجة هذا، أو إذا لم تفعل شيئا مثل مسيرة ماو الطويلة، أو اكتسبت زخماً من الخارج خلال تحرر الدول العربية فإن الهزائم سيكون لها تأثير خطير على معنويات الجماهير، لهذا نقول أن  فترة التراجع لم تبدأ في أيلول / سبتمبر، بل بدأت بعد معركة الكرامة.

يمكن أن نأتي الآن إلى مسألة “إسرائيل” نفسها، هل تعتقد أن هناك شيئا كدولة “إسرائيلية”؟

 جادلت مجموعة ( ماتسبن ، لحركة الاشتراكية في اسرائيل) وآخرين داخل “إسرائيل” بأنه قد لا تكون هناك في الأصل أمة يهودية، ولكن المهاجرين اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين  أقاموا مجتمعاً جديداً يمكن أن يُطلق عليه “الأمة الإسرائيلية”، هذا هو حل “ماكسيم رودنسون”، إنه ” حل  فكري رائع ” فهذا يعني أن أي مجموعة من المستعمرين الذين يشغلون منطقة ما ويبقون هناك لفترة من الوقت يمكن أن تبرر وجودهم بقولهم إنهم يتطورون إلى أمة ؟!.

 أنت لا تعتقد أن “الإسرائيليين” أمة؟

لا، لا، إنها حالة استعمارية.

ما لديك هو مجموعة من الناس جُلبت لعدة أسباب، مبررة وغير مبررة، إلى منطقة معّينة من العالم. هم جميعا يشاركون في حالة استعمارية، بينما توجد بينهم أيضا علاقات استغلال. وأوافق على وجود استغلال للعمال “الإسرائيليين”. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي يحدث هذا، فقد كان العرب في إسبانيا في نفس الموقف، كانت هناك دروس للعرب في إسبانيا، لكن التناقض الرئيسي في إسبانيا  كان بين العرب، ككل، وبين الشعب الإسباني.

هل ترى تناقضات في صفوف السكان “الإسرائيليين” يمكن أن تقسمهم في المستقبل، وتوفر للمقاومة الفلسطينية حلفاء داخل المجتمع “الإسرائيلي”؟

التأكيد، ولكن هذا لن يحدث بسهولة، أولا ًوقبل كل شيء، يجب علينا تصعيد الثورة إلى المرحلة التي تشكل بديلاً لهم، لأنه حتى الآن لم تشكّل ذلك، من غير المعقول أن نتحدث عن ” فلسطين الديمقراطية” في هذه المرحلة نظرياً وهو ما قد يشكّل أساساً جيداً للمناقشات المستقبلية، لكن هذه المناقشة لا يمكن أن تحدث إلا عندما تكون المقاومة الفلسطينية بديلاً واقعياً.

هل تقصد أن تكون قادرة على توفير بديل عملي للبروليتاريا “الإسرائيلية”؟

نعم، فعلاً. لكن في الوقت الحالي من الصعب جدا أن تحصل الطبقة العاملة الإسرائيلية على صوت المقاومة الفلسطينية، وهناك عدة عقبات أمام ذلك. وهي تشمل الطبقة الحاكمة “الإسرائيلية” والطبقات الحاكمة العربية. فالطبقات الحاكمة العربية لا تقدم لا “للإسرائيليين” ولا للعرب احتمالات للديمقراطية. ويمكن للمرء أن يسأل: أين توجد ديمقراطية في العالم العربي؟ ومن الواضح أن الطبقة الحاكمة “الإسرائيلية” تشّكل عقبة أيضاً. ولكن هناك عقبة ثالثة، وهي الفائدة الحقيقية، إن كانت صغيرة، التي تستمدها البروليتاريا “الإسرائيلية” من مركزها الاستعماري داخل “إسرائيل”. ليس فقط في حالة العمال “الإسرائيليين” استعمارياً، ولكنهم يستفيدون من أن “إسرائيل” ككل قد جندت للقيام بدور محدد في التحالف مع الإمبريالية. وهناك حاجة إلى نوعين من الحركة لكسر هذه الحواجز، حتى يكون هناك اتصال في المستقبل بين بروليتاريا “إسرائيلية” معادية للصهيونية وحركة المقاومة العربية. وستكون هذه حركة المقاومة من ناحية وحركة معارضة داخل “إسرائيل” نفسها؛ لكن ليس هناك أي علامة حقيقية على هذا التقارب حتى الآن، لأنه، على الرغم من وجود( ماتزبن ، الحركة الاشتراكية في اسرائيل)  سيكون من الضروري وجود حركة بروليتارية جماعيّة.

الهدف | موقع قلم رصاص الثقافي

عن فؤاد ديب

فؤاد ديب
شاعر وصحفي فلسطيني سوري يعيش في ألمانيا، صدر له في الشعر (الورد لايوقظ الموتى -2006) و (ظل الرصاصة...جسد-2018).

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *