«هناك كتب أقرب ما تكون إلى ذبيحة لغوية بأحشاء مكشوفة ورائحة عطنة، تدعوك إلى النفور من محتوياتها، ورائحة أفكارها بمجرد تصفحها على عجل، وكتب تجذبك إليها من السطر الأول». أورد هذا الأديب السوري خليل صويلح في أحدث إصداراته «ضد المكتبة» الصادر عن دار (نينوى ـ دمشق 2017).
شكلت المكتبة عبئاً ثقيلاً على صويلح الذي كان ينقلها في العاصمة دمشق من منزل مستأجر إلى آخر، إلا أن ضيق باب آخر المنازل التي استقر فيها الأديب حال دون دخولها إليه، ليتركها هدية مودعة لدى سائق شاحنة. كانت المكتبة تتعرض بعد كل عملية انتقال إلى تعزيل يُفضي إلى الاستغناء عن الكتب الفائضة عن الحاجة، «ليست المكتبة إذاً، بحجمها، إنما في نوعية محتوياتها».
يطرح صويلح فكرة «اللا مكتبة»، للتخلص من عبء المكتبة التقليدية برفوفها وخشبها الثقيل وصعوبة نقلها، وشيخوختها وتخليصها مما علق بها من كتب طفيلية، «أليس هناك شيخوخة للمكتبة؟ الشيخوخة لا تعني الحكمة على الدوام بالطبع»، ويتساءل: «ما حاجتنا إلى كتب صارت متوفرة في “دكان غوغل” المفتوح ليلاً نهاراً؟».
عدوى الكتابة
يتقفى صويلح في «ضد المكتبة» مواطن الخلل الذي خلفته “حمى” التواصل الاجتماعي بالوسط الثقافي، وحولت ـ بالعدوى ـ أغلب من لم يمحوا أميتهم بعد إلى “كُتّاب” مُتجندين بـ «لايكات» الفيسبوك والمجاملات العابرة، مُشخصاً حالة الواقع الأدبي الذي أصابت أطرافه “الغرغرينا”، وصار بتره ضرورة مُلحة في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فيطرح صويلح سؤاله: «ماذا بخصوص حالات الجذام التي غزت شبكة الأنترنت بوصفها شعراً، ورأى أصحابها أنها تستحق الطباعة ورقياً، كضرب من تعميم البلاهة، ألا ينبغي تنظيف المكتبة من هذه الطحالب والبثور ووحيدات الخلية؟».
لبس أغلب رواد شبكات التواصل الاجتماعي لبوس الثقافة، وقدموا أنفسهم لجمهورهم الافتراضي على أنهم مثقفون وأدباء لا يُشق لهم غبار، عبر نشر اقتباسات لكُتّاب وأدباء مشهورين لهم مكانتهم دون يقرأوا نتاجات هؤلاء الكُتّاب، فلا وقت لديهم للقراءة وساعدتهم التكنولوجيا الرقمية على “نسخ ولصق” ما تيسر لهم بين الحين والآخر، مُعتمدين على جهل مجتمعهم الافتراضي بحقيقة ضحالتهم الفكرية والأدبية…«إن التقاط الشذرات العرجاء من المواقع الإلكترونية كدليل على المخزون المعرفي لصحابها لا يصنع قارئاً أصيلاً، إذا لم يكن القارئ نهماً في الأصل. أن تضع عبارة لفيلسوف مثل نيتشه على حائطك الافتراضي، لا يعني أنك تمتلك ثقل شاربيه في العدمية. وأن تختزل “دون كيخوته” في فكرة محاربة طواحين الهواء، وفقاً لأقوال سطحية متداولة، يتطلب أن تعرف عن كثب كاتباً عبقرياً اسمه الكامل “ميغيل دي سرفانتس”».
القراءة أولاً
يدعو صويلح إلى إعادة توجيه دفة القراءة وضبط البوصلة باتجاه المسار الصحيح من خلال قراءات مقتضبة لأعمال أدبية عالمية وعربية شكلت نقلة نوعية وما زالت حتى اللحظة أرضية صلبة يجب أن ينطلق منها الإنسان أولاً كقارئ قبل أن يمخر عباب الكتابة بأدوات بدائية ولغة خشبية كارثية..«هناك أيضاً، كارثة الكتب التي تصلنا كإهداءات بلاغية مفزعة لفرط سطوتها الإنشائية، من كتبة هواة خصوصاً، كتّاب اتوا الكتابة من دون عدة حراثة الكلمات وشحذها بحجر صوان البلاغة، أتوا بوهم الموهبة، وشجاعة الجهل، والشفرات المثلمة في أداء المخيلة، وبالطبع أخطاء النحو والصرف. أولئك الذين أثنى معلمو اللغة العربية عليهم يوماً بعلامة مرحى بعد كتابة موضوع إنشاء عن عيد الشجرة…».
إن الكتابة ليست مجرد رص الحروف إلى جوار بعضها، وتقديمها للقارئ في كتاب تحت مُسمى شعر أو رواية أو مجموعة قصصية بل يرى صاحب «وراق الحب» أن «الكتابة هي الإزميل السحري الذي يحول صخور البازلت الصلبة إلى طيور وتماثيل ناطقة»، ولا يُغفل أن «بعض النصوص الإبداعية أو ما يتهيأ لأصحابها أنها كذلك تشبه ترجمة غوغل لعبارة ما»، متسائلاً: «ماذا نفعل بكتب مسحوبة العصب، وبأضراس غير صالحة لطحن قمح الكتابة؟».
نقد مزاجي
ليست الكتابة “طبخة” في “بوفيه” مغلق، يُقدمها الكاتب وفق مقادير معينة تلاءم أذواق النقاد، إنما هي فسحة يحلق منها الكاتب بأفكاره وقناعاته عالياً محاولاً التأثير والتغيير نحو الأفضل، يقول صويلح: «أثناء الكتابة لا أفكر بأن أضع ملعقة فلفل هنا، وملعقة عسل هناك. لست طاهياً حسب الطلب». يذر أغلب من امتهنوا النقد مصطلحات فضفاضة وغير مفهومة في عيون القراء، ويُقدمون الكثب الغثة على أنها فتحاً في عالم الأدب والفكر، وازداد ذلك ازدهار العلاقات الافتراضية، يقول صويلح: « تلك المهنة البائسة التي احتكرها بعض النقاد في تقديم كتب الشاعرات ـ على نحو خاص ـ ذلك الاطناب بالمديح بما لا نجده فعلياً في متن النصوص»، ويتساءل، « شاعرات ونصوص أم ذئاب منفردة وفرائس؟».
يوجه بعض النقاد سهامهم نحو الكتب التي يرون فيها مساساً بمعتقدات مجتمعاتهم بغض النظر عن صلاحية تلك المعتقدات أو إيمانهم بها، أو وفق قوانين مؤسساتهم، إلا أنهم ينكبون على قراءة تلك الكتب أكثر من مرة، «الذين يحاكمون كتاباً ما بتهمة خدش الحياء العام هم أكثر من يقرأ هذا الكتاب بلذة قصوى». بعد قراءة «ضد المكتبة» يصبح لدى القارئ تصوراً جيداً عن نوع المكتبة التي يُمكن أن يقتنيها، مكتبة حقيقية وليست جزءاً من “البريستيج” والديكور المنزلي، يجمع كتبها بشكل عشوائي ولا يقرأ معظمها، يختم صويلح كتابه الجديد بـ «أن تكون ضد المكتبة فأنت تحتاج إلى مكتبة أخرى بخطط ومتاهات لا نهائية».
القدس العربي | مجلة قلم رصاص الثقافية