أيامٌ غائمةُ الذكرى، مثل نصٍ كُتب على ورقٍ أصفرٓ بخطٍ صغيرٍ، وتحاول قراءته دون نظارة لم تعتد بعد على أنها جزء من جسدك، ولا تستطيع أن تنساه في البيت لكنك لم تعتد على ذلك بعد، فكل ما ستقرؤه وتكتبه دون نظارة تساعدك على الرؤيا سيكون ضبابياً وغائماً، وقد يكون غائباً عنك مسافة عمرٍ وجيل، فما مر من أعوام لا تحسب بالأيام لكنها تحسب بالخوف فعندما تجد نفسك وحيداً في غرفة تطل على الثلج وأنت الحالم بأن يكون لك غرفة مستقلة منذ شبابك لهذا قضيت جلَّ مرحلة الشباب متسكعاً في أزقة مخيم ينتمي للبهاء والهباء، فهو المتكئ على كتف دويلعة حيث أجمل نساء الأرض قاطبة تسير هناك على رصيف الغزل ومن الناحية الثانية وباتجاه المليحة يزاحم ويكاتف جرمانا بجدرانها، ويأخذ نصيبه من صداقات أهلها ومشاجرات الشباب عند الذهاب إلى امتحان الشهادة الإعدادية حيث كان يتربص شباب جرمانا بشباب المخيم كي يثبتوا للفتيات هناك بأنهم الذين يحمون حدود الصوت ومقاييس الجمال عند الله وشباب المخيم كانوا ينتظرونهم وهم ذاهبون إلى المدينة فلا طريق لهم ألا عبر عين المخيم الساهرة على طريق معمل الزيت والصابون “حيث التهمت أسنان الآلة كف عبد الملك وهو يتناول قطعة صابون من بين فكيها، وكان هذا المعمل قبل التأميم البعثي يسمى الإيتوني نسبة لأصحابه”.
كانت مشاجرات وصراعات الشباب هناك بين كرٍ وفر ومن الطرف الآخر يطل المخيم على متنفسه ورئتيه وبنفس الوقت على ( العكرتة) حيث الملعب وطريق المطار وأمسيات الصيف المشي عند الغروب على رصيف هذا الطريق الطويل (سيقول بعض خبيثي النية أنت تعتقد أنه طويل) حتى تكاد غوطة دمشق أن تغريك بالاختلاء بحبيبتك بين أشجارها، هكذا هي الغوطة تتستر وتستر عاشقين يسيران بصوتٍ خفيضٍ كي لا يوقظا خريف النهايات، لكن عشاق مخيمنا كانوا يذهبون ليلاً إلى مقام (سيد الناس) عند أطراف المخيم لممارسة طقوسِ عبادةٍ خاصةٍ بهم ولا يتقنها ولا يعتنقها غيرهم كي يتقربوا إلى الله عن طريق هذا الولي الصالح (وهو الراقد بأمان حتى قيام المخيم عند تخوم مرقده) يتقربون إليه ببعض القبل والصلاة وكلٌ منهما سجادة الآخر يتناوبانها، لم تكن قبلاً فقط بل أكثر من ذلك بكثير حتى يخيل إليك من شدة تقاربهم أنه سيتوسط (سيد الناس) بكل ما أوتي من كراماتٍ عند الله كي يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر فقط كي يتركوا عظامه تستريح في مقامها الأزلي، لكن شاباً في مقتبل الخطيئة كان يحب الدمع فاختار شتاء الطريق حيث لا أحد يشاركه السؤال لغالب هلسا وكيف سقينا الفولاذ لنيكولاي أوستروفسكي إلا فتاةٌ تتأبط ذراعه تحت مطرٍ خفيفٍ وتهمس في أُذنه (زي الهوى يا حبيبي زي الهوى… وآه من الهوى يا حبيبي آه من الهوى… يا حبيبي ) لعبد الحليم حافظ، وبينما هما يسيران هناك بعد الجسر تحت أعمدة الضوء المتباعدة، ملتصقان كتمثال صلصالٍ لظلٍ وحيدٍ ولا صوت حولهما إلا صوت سلاسل ثوبها مع كل خطوةٍ، وهي تخب كفرسٍ تحت الضوء (وهي كانت فرسا ليس كمثلها فرس ) بينما هما كذلك كان يسيل خلفهما خطاً نحيلا من الطين يخبر عن دخولهما معاً في غيمة حتى الذوبان، كانا عاشقين أخذتهما النشوة بالإثم كانا يعتقدان أنهما طيفاً لظلٍ واحدٍ وألا أحداً هناك يراهما فإذا بصوتٍ يأتيهما من سيارة عابرة ( شُفْتااااااك ) حينها جفلت ومن شدة خوفها التصقت به أكثر فتمنى أن تمر هذه السيارة مرة أخرى ويعيد جيفارا (وهو اسمه الحركي منذ أن كان فدائياً في جنوب لبنان مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) صياحه أن رأيتك…
في طريق العودة كان فرحاً إذ أنه كان قريباً من جعلها تكتب طلب انتساب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكنه وقف حائراً عند مفترق الصوت في داخله هل يكمل معها طريق الحب أم يكمل محاولته معها كي يجعلها تنتسب إلى الجبهة ليخرج في نفس اللحظة “بافل كورتشاغين” بطل رواية “كيف سقينا الفولاذ من عُبّه”، ويمسكه من أذنه كمعلم في مدارس وكالة الغوث ويؤنبه على نزوة لم يرتكبها إلا أنه حاول أن يفكر ( لتكون عم تحاول تفكر هكذا قال له المحقق في فرع الخطيب عندما تم اعتقاله قبل سنوات قليلة في دمشق وهو معصوب العينين )، وليكتشف فيما بعد أنه أحمق أو حماااااااار، كما قال له جيفارا عندما التقاه ليل ذاك اليوم، وبادره بالسؤال وابتسامة خبيثة مثل ملصق الشيطان الأزرق المبتسم في الوتس آب): رحت على سيد الناس يا عرص مو؟…..يتبع.