المرآة اختراع أحمق كما يبدو..
أقول لنفسي وأنا أدير ظهري لها وعبثاً أحاول أن أرى كيف أبدو من الخلف..
أقابل الزجاج اللامع بظهري.. ثم أستدير فيما أظنه سرعة كافية عليّ ألتقط بقايا الصورة العالقة في المرآة.. باعتقادي الأحمق أنها قد تحتفظ بالانعكاس و لو لثوانٍ..
لكن أفشل..
أريد أن أعرف شكلي من الخلف..
يسكنني الهاجس مذ لاحظتُ اليوم أنك كنتَ تسير ورائي.. تضبط عداد السرعة على البطء.. وتمشي ورائي.. بمحض الصدفة أو الفضول أو العبث .. لا أدري أحاول فقط أن أعرف كيف بدا شكلي لك؟
عندي فقط بعض التصورات.. ظهرٌ ممدود غير مشدود.. تُتوجهُ رقبة طويلة (أو كما قال لي جدي “بعيدة مهوى القرط”).. شعرٌ مفرود عشوائياً تقطع سواده بعض الشعرات القليلة البيضاء.. التي سأدعي لو لاحظتَها أنها من جرّاء الحكمة الزائدة.. ساقان طويلتان مغلّفتان اليوم بأسود شفاف يُظهر ويُخفي.. وفستان قصير فيه الكثير من الألوان التي قد تكون عددتَها.. أعرف أن لك عقلاً رياضياً أكثر منه رومانسياً وستقول لنفسك “ارتدت سارة اليوم فستاناً بعشرة ألوان” بدل أن تقول “ياله من قوس قزح”.. وسيعجبني طبعاً صدقك البسيط أكثر من كلّ القصائد..
كيف رأيتني من الخلف؟ هل عرفت فيما أفكر؟ هل تتسرب أفكار الرأس إلى جزئه الخلفيّ فيفضح للسائرين وراءه أسراره؟ هل عرفتَ مثلاً أنني كنت أفكر فيك (كعادتي) دون أن أعرف أنك ورائي؟ و أن رأسي في زواياه القصية مملوءٌ بك و متخم تماماً مثل قلبي؟! هل يشفّ الظهر عن القلب فيه؟؟! (ظهرٌ يرشح منه شعاع حب جهة اليسار)..تخيل..
هل نظرتَ في مرآة سيارتك و قرأتَ “الأشياء أقرب مما تبدو” فتخيلتني أقرب؟ أقرب من المسافة الفاصلة بيني وبينك؟ من مسافة الأمان الحمقاء الموضوعة عنوةً بيننا منذ سنين؟
أو هل عساك نظرتَ إليّ كما ينظر سائق لسيارة تتجاوزه.. يلقي عليها محض نظرة سريعة شبه غائمة.. ويقول بثقة “سأتجاوزها” هل فعلت؟ هل ستفعل؟؟
الآن أفشل للمرة العاشرة في اختطاف صورتي من المرآة.. فأتذكر مَن في فيلم قالت له “كيف سأرى الوشم الذي رسمتَه على رقبتي من الخلف”؟
قال لها: “ألتقط له صورة“
مع الوقت بقيت الصورة ورحل هو..
هل ستلتقط لي صورة؟؟ أو ستبقى؟؟
ما أزال أشعر بك ورائي.. دعك من فارق الزمن ومن خربطات الاتجاهات.. وفشل المرايا في التقاط الصور.. أنت ورائي والأشياء أقرب ممّا تبدو.. (أثق).
وكل ما حاولتُ أن أتجاوزك عرفتْ.. أنت ورائي.. ولهذا يبدو لي الأمامُ كالحَ اللون.. مختل الوزن وفارغاً.. أنت ورائي.. وكل محاولة هربٍ منك هي محاولة لنسف الوراء.. للاستدارة عكس المرايا.. وعكسي..
الآن أسمع صوتاً يقول “إلى الوراء درْ“..
يأتي من المرآة.. من الكاميرا.. من الذاكرة..
من الفرح القابع فيك خلفي..أو منّي..
“إلى الوراء در“
يدور الجنود والتلاميذ وقلبي وشعبٌ كامل صار يرى في الوراءِ أماماً وأمان..
إلى الوراء در..
تطلّ أنت ورائي مصفَّف الشعر جهة اليسار.. مفتوح العينين ومرتكباً ابتسامتك الفادحة..فيصبح لزاماً عليّ أن أتجاهل فعل الأمر التالي في السلسلة “إلى الأمام سر“
ثم التكرار التالي متوقِّعاً صممي “إلى الأمام سر.. إلى الأمام سر“
لكنني إلى الوراء أدور.. ويدور معي البلد ألفين و إحدى عشرة مرّة..
إلى الوراء در.. أنتَ هناك.. و حيثُ تكونُ.. تكون الجهات أماماً..
إلى الوراء درْ..
إلى الوارء درتْ…
شاعرة سورية | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية