عبد الباقي قربوعه |
يجد العابرون رهبة عظيمة أن يجلسوا هنا، فالمكان صار له وحده.! لا يريد أن يريح هيكلا متعبا كما ينوي الآخرون، إنما يريد أن يريح ما يحمل هيكله المستريح جد.ا!
هو مصر أن الأشجار المحيطة به مثمرة رغم الشوك الذي يبرز كالدبابيس.! شمسه تبزغ كل غروب، وتغرب كل فجر ويبدو له النهار فيما بعد ليلا حالكا.!
انفتاح النافذة يُخلج كل أعضائه، يغير من وضعية رجليه، يمسح وجهه، يرفع يديه كأنما قد طلت عليه ليلة القدر، أزيز الشباك كبوق الباخرة يشهر الإبحار، يتفقد جلسته، يضم رجليه إلى بعضهما، يخرج قطعـة قماش فيلمع حذاءه، يُبعد قليلا من القش في محيطه، ثم يتفقد ما حوله يتأكد من نقاء المكان، ينفض كتفيه من الغبار، يطلق بعضا من شعره على حاجبيه ثم يحمل ذقنه فوق إبهامه، ويمضي بأسنانه يلوك ظفر سبابته، كيف ما يشتهي بدّلت شكل الستار، غيرت وضع المزهرية، أشعلت عود البخور، الشريط خلفها شريطان: واحد يرتل مشتهاه، والآخر يعلن وسطها الراقص تحت خيوط حزامها الملون، شعرها لابد كالسحاب يخبئ المطر والربيع، بينه وبينها تغرد العصافير تعلن بدء العمر.! العطر رائج متوهج يشبه النار يأكل نبضه، ويُفحّم النخاع في عظامه، كان يقولها دائما:
– هي الحياة واحدة كما الموت واحدة.! وتسأله القيامة في ساعته:
كم لبثت قرب النافذة؟
يقول: ساعة أو بعض ساعة.! ويُقلبه الشوق ذات اليمين وذات اليسار، وقلبه باسط خفقه كالوليد! ويسألها:
– آه لو اطلعت لملئت مني سلاما وحنينا.!
تستجيب لصمته الصّارخ بهزة رأسها لأنها تخاف القبيلة خلفها.!
كم يشتهي أن يغني أو يرقص كي يخبئ فرحته فالأقدام تقذفه بالغبار والأخبار.! والنافذة كالآخرة صراط يصر على الاستقامة والحياء، ولا جهنم حوله غير أنظار العابرين.! يتحرك الستار تقسمه إلى اثنين عشرُ نقاط حمراء، يبدو وجهها بين الضفيرتين قمرا متملصا بين جبلين، أسنانها ثلجٌ راكد يأبى إلا أن يطفئ شفتيها، وصهد لسانها يُعطّش البحر! فيسألها:
– متى الوعد فلم يأمرني بالود غير قلبي.؟ وكم كنت أصلي.! ألا أدخل جنتي وأنا الظافر بالقلب الكبير، الطاهر بدمع التمني، الظاهر بالحب الذي أتقنه الأنبياء! وفي نومي تفضحني الأحلام، فالطفل في أنا ينادي اسمك كل مرة.! وأنا الكبير يُواري أحرفك بالأشياء، وينفضح السر ويفلت كالاعتراف.!
تتحرك أظافرها الملتهبة على ضلع النافذة، الشريط لا يزال يغني، يُرقِّص المكان وتتحفه كل حين رائحة النعناع.! ومن الريح تنقذ الستار ثم تعبر ككل امرأة، تزيح شفتيها من الاعتدال إلى اليمين، ومنه إلى الشمال بطريقة تتقنها كل النساء.! أغلقت في قلبه النافذة، فقام يرتب جلسة أخرى، ويُعدُّ نفسا آخر فلعل ليلة القدر تطلع ثانية، ذهب والليل يحضن فرحتـه كما الطفل يبعثر الخطى، يداعب الخفافيش، وينام يمتص إصبعه ينتظر الصباح النائم تحت الوسادة.! وعندما توخزه الشمس يذهب إلى صاحبه يقص الحكاية:
– تلك هي النافذة، لا ترفع رأسك فالطريق مليء بالعابرين.!
– وكيف أتبينها وأنا هكذا.!؟
– حسن أنظر بحذر!
لم يكد صاحبه يفعل حتى جذبه من قميصه:
– أنا مذ زودني الله بالخفق كنت موعودا بضحكة ثغرها، وطفل أنا لا أتقن فرز الأشياء، وكم عيّرني الأصحاب أني أحبها، كتبوا على الحائط ع + ن يساوي حرفين قرأتهما بصعوبة:
– حب! كلمة أتعبني بين جنبي، دفعتني لأخلص النظرة للنظرة، والفكرة للفكرة، وأرمي في عيون حسّادنا العشرة! ومن أحاسيسنا وورد الربيع نُهودج المكان.! أنا من هنا أودعك يا صاحبي، موعود أنا بشمسي تعودت أرقب بدء بزوغها.!
راح بقدميه يلتهم الخطى.! هي الروح تشتهيه عاشقا، فرمشها يا عين قلبي يسافر في كبده ويشهر الدخان، وها كتلة من النار هو وكم أطفأه من مرة مطرُها، وكم كحل عينيه من ليل شعرها.!
النافذة لم تخطيء التوقيت، عقربان يعلنان الزمان، وصغير يزهو بمجيئه يزف لمجلسه المكان، دورتان على مساحته ساعته وكل الذي توقعه قد كان.!
سيهدأ الضجيج بعد حين، ويقل المارة ويتناقص دخان السيارات.. ويسكن الشارع، ويخلو للنظر والتنهيد.!! قابع كالطفل بين الأشجار لا تقنعه الألعاب، ولا تشبع رغباته الملاهي! يشير لها أن أزيحي الستار إلى اليمين قليلا.! هو لا يجرؤ أن يقول لها: ( … ) غير أنه مذ عرفها تخرج عالما بلغة الورد والألوان، واكتشف قلبا يرفرف في داخله كالخطاف.!:
أيها الملك القابع في فؤادي كيف أعلنت آذان الحب في مهجتي، وفرشت دمي سجادا كي تصلي، وأحطت بالشعر والأريج المعبد والكيان، أنا حتى القيامة لن أبرح المكان، لست في الحب محترفا كل الذي أيقظني شيء يشبه النار، وما رددته من أغاني ما أقنع محنتي، وما كنت أدري أن قلبي من تعنته قد استجاب.!
تبتسم بكبرياء كالعادة.. تغلق النافذة !! تتسلل من صدره آهٌ ملتهبة تكاد تحرق الأشياء من حوله.!! فمضى تاركا روحه وراءه ونافذة كان يطل منها على الجنة.!! دخل خلاء شقته وصار كلما التفت اصطدم بحائط.. ألقى بهيكله حتى توجع الخشب من تحته!! وسرعان ما أخذه نوم يشبه الإغماء! وهو يحك بطنه بطريقة بهلوانية:
– وانتفضت كالنحلة فوقي تطعمني العسل
جنون قيس أم حب الأولين الذي قتـل!؟
أخذته شهية الحك وشراهة الشعر، فانقلب إلى الجهة الأخرى يصرخ:
– لقد صرت شاعرا.. لقد صرت شاعرا..!
سقط أرضا وقد كان يحمله السرير إلى حيث الصباح، حوله الأشياء باهته.. أزيز عداد الغاز يشبه طنين البعوض! وأشياء مبعثرة، كتب، جرائد.. وقارورات فارغة لأنواع مشروبات مباحة، ومطفأة فائضة ببقايا السجائر الفاخرة،
عاود سريره الحنون حمل أطرافه من جديد، فغطس في غفوته العاقلة التي تعود أن يقنع نفسه بها بعد كل حلم جميل..!
كاتب وروائي جزائري | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية