فؤاد ديب |
ضريح بافل كورتشاغين
– يا رجل عيب
– عيب؟
– لا تقل لي أنك كنت تحاول تعطيها كتاب أو رواية.
لم أعرف بماذا أجيبه فقد أسقط في يدي وبدوت في نظره (على نياتي أهب)، وبعد فترة صمت مرت كأنها أسابيع ضحك بصوت عالٍ، لا لم يضحك بل استلقى على الأرض وهو يقهقه وقال ساخراً:
– بالله ما أعطيتها النظام الداخلي.
– لا
– هههههه مالك حق …. تعرف إنك حمار ، حمااااااااااااااار يا حسرتي عليك يا مولاي يا سيد الناس اليوم رح ينام وحيد بالمقام
– جيفارا خلصنا عاد ،
– بلا خلصنا بلا خرا ، قوم انقلع قوم.
فيما بعد وبعد أن مرت تلك الأيام وجرت رياح الثورة بما لم تشتهي سفن الثوار وجمعت كلمة مسؤول جمع تكسير وأصبحت مسائيل وتغول فعل المكاتب أو كما يقول أحد الرفاق ( جماعة وصلت الجرايد) كي يأخذها ويعود إلى منزله غانماً بجريدة تأكدت يوماً بعد يوم أنه لا يقرؤها كما تأكدت أن جيفارا كان محقاً بوصفه لي (حمااااااار).
بعد تلك المحادثة مع جيفارا أحسست أن هناك شيئا ما يجب أن يتغير كما تغير كل شيء حولنا فإلى متى سنظل نحمل تعاليم ومقولات أبطال الروايات التي قرأناها ونتركها تراقبنا كلما هممنا أن نقترف إثماً على شاكلة حب أو جسد، بعد أن مرت أيام من التساؤل اتصلت بي لنخرج إلى طريق المطار كي نغازل الرصيف كما قالت فوافقت على ذلك لكني لم أنس أن أصطحب معي رواية كيف سقينا الفولاذ ووضعتها كما عادتي دائماً خلف ظهري تحت القميص، التقينا عند مدخل المخيم فأحاطت خصري بذراعها وأحست بالكتاب وهمست (الي فيه عادة ما يبطلها)، فوضعت كفي على رأسها وبعثرت خصلات شعرها بتودد ، تأبطت ذراعي ومشينا وعندما وصلنا إلى أول طريق المطار استأذنتها ودخلت إلى ملعب الأبناء ( وكانت هذه تسمية ملعب مخيم جرمانا واختصاراً نقول ملعب الأبناء) أخرجت الكتاب من تحت ثيابي قبلته وحفرت الأرض قليلاً، رميت الكتاب وأُهلت فوقه بعض التراب، نعم لقد دفنت بافل كورتشاغين في أرض ملعب الأبناء في مخيم جرمانا ولَم أنس أن أضع فوق ضريحه حجراً كبيراً كي لا يخرج خلفي، خرجت راكضا من الملعب ولَم ألتفت خلفي كمن ارتكب جريمة ووجدتها مستندة على سُوَر الملعب واقفة على قدم واحدة مثل مالك الحزين وتُسند الأخرى على السور عاقدة كفيها خلف ظهرها ابتسمت وقالت:
– قضيت حاجتك.
– كان لابد أن أقضي هذه الحاجة والآن جاء دورك.
– أقضي حاجة بالملعب ؟
ضحكت وقلت :
ـ لا سأقضي حاجتك وحاجتي وغمزت بعيني وحركت رأسي أن هيا نكمل الطريق وأعتقد أنها فهمت المغزى (لأن ما حدث بعد ذلك بأيام كان اقترافاً للحب بكل ما للكلمة من معنى).
تشابكت ذراعانا ومشينا، بدا لي كأن رصيف الطريق قد أصبح طرياً وأن أغصان شجيرات الدفلى المغبرة دائماً أمست أكثر اخضراراً حتى ما تفتق من بين أغصانها من أزهار كانت نضرة و أكثر كثافة حتى ضوء الأعمدة كان أكثر خفوتاً وكأن كل شيء يدعوك أن تسندها على سُوَر ملعب الأبناء وتقبلها، أرخيت ذراعي وفككت التحام ذراعها معه ، حضنت كفها ونظرت في عينيها وكانت خصلة من شعرها الأسود المجعد تكاد أن تهمي فاعدتها مكانها، أقتربت قليلاً وقبلتها قبلة سريعة، رسمت ابتسامة شحيحة فوق شفتيها وضمت حاجبيها والفرحة تقفز تكاد تقفز من عقدة جبينها، أمسكتني من كتفيّ وأدارت وجهتنا كي نعود أدراجنا مشينا ببطء كانت تتأبط ذراعي وترخي رأسها على كتفي ، وقبل أن نصل إلى مدخل المخيم قلت لها مازحاً:
– أريد أن أن أدخل الحمام.
– ولو … شو ..؟ قبل شوي رحت.
ألقيت نظرة سريعة على قبر بافل كمن يزور أحد أحبته في الصباح بعد موته، انتابتني مشاعر حزن وأنا أدير له ظهري فقد مضى وقت إخراجه لأنه وبعد كل هذا الوقت تحت التراب لابد أنه اختنق، عدت مسرعاً فالتفت ذراعها حول خصري وسألتني:
– يبدو أن كتابك سقط من وراء ظهرك.
– على العكس تماما ( أمام عيني) لقد دفنته
– لا أعرف أنك تؤمن بالسحر والحجب.
– لقد كان أكثر من ساحر ، أكثر من ذلك بكثير .
افترقنا كعادتنا عند مدخل المخيم لكن هذه المرة قبلتني على خدي وركضت مسرعة باتجاه( أبو نوري) وهو اسم الطرف الآخر من المخيم ….
لم أستطع النوم ليلتها تقلبت في فراشي كثيراً حاولت أن أسمع عبد الحليم أو أن استمع لنشرة الأخبار كنت قلقاً متوتراً يبدو أنه الندم . نعم نعم هو الندم ولاشيء آخر فماذا يمكن أن يكون غير ذلك لكن وجهها وهي تعقد حاجبيها تراءى أمامي فخفف من توتري ودفع شعور الندم بعيداً لبضع ساعات وعند أذان الفجر قررت أن ألعب الدور كاملاً، أخذت حماماً سريعاً وارتديت (حذاءً رياضياً وشورت وتي شيرت ) كي يكون دور الرياضي الذي جاء ليمارس الركض عند الفجر متقناً . سلكت طريقاً مختصرة من أمام جامع الرحمن (الذي سيسألني عنه شيخ النصرة عندما هربت من دمشق باتجاه حلب) فشارع مكتب حزب البعث العربي الاشتراكي إلى بستان النصيري وهبطت باتجاه الملعب وذهبت باتجاه مقام سيد الناس ولأنني لم أدخله سابقاً فقد قادني الفضول متزنراً بكلمات جيفارا إلى بابه الذي لم يكن محكم الإغلاق، دفعته ففتح، أمسكت قبضة الباب وبدأت أفتحه ببطء كي لا أوقظ مولاي سيد الناس وكان هناك ضوء شحيحاً يكبر كلما أوغل الباب إلى الداخل وفُتح الباب على آخره، وقفت مذهولاً لهول ما رأيت كان ضوء الشموع يتمايل نتيجة نسمة هواء صباحية وكأنه فتاة بخصر نحيل ترقص وقد ارتدت فتنتها والقوانيس الرمضانية بألوان زجاجها الملون معلقة بسلاسل نحاسية لامعة والستائر تدلى وقد ربطها خادم المقام على شكل نصف قلب، لا أعرف لماذا خلعت حذائي ودخلت، وقفت أمام العمامة المزروعة على هرم الضريح خاشعاً ورائحة البخور تفوح تتخلل رئتيك كلما أخذت نفساً، تراجعت قليلاً لأستطلع أين يصلي عشاق المخيم وفي أي زاوية يمارسون طقوس عبادتهم فإذا بنور يغمر المكان فجأة ويد تمسك كتفي، ارتعدت أوصالي وفكرت أن سيد الناس استيقظ ليردع ما أفكر فيه، وإذا بصوت خادم المقام وقد حمل في يده ضوء بطارية وطوى تحت إبطه عصاً كبيرة يقول لي:
– تقبل الله منك لا تخف يا بني لقد أعتقدت أنك واحد من هؤلاء الزعران الذين سمعت أنهم يأتون إلى هنا ليلاً .
– منا ومنك يا شيخ.
– قلتها وأنا أرتجف من هول ما حصل لي يبدو أن خلعي لحذائي ووقوفي أمام عمامة الضريح خاشعا قد أنقذني من ضربة العصا التي كان يحملها ، قلت هاتين الكلمتين واستدرت بسرعة، لبست حذائي وخرجت، جلست على أول حجر وجدته وضعت يدي على صدري وأنا اسمع دقات قلبي الذي يكاد يخرج من مكانه، استجمعت قوتي التي تناثرت حول الضريح وقفت، تنفست بعمق وبدأت الجري الخفيف حول ملعب الأبناء إلى أن وصلت إلى الطرف الذي دفنت فيه بافل كورتشاغين وتوجهت مباشرة إليه وكانت المفاجأة الثانية فقد كدت أسقط من هول هذه المفاجأة التي لم تخطر لي على بال، نعم لم أجد قبر بافل …. أو بالأصح لم أستطع أن أجده فقد كان هناك صفاً طويلاً من الأحجار الكبيرة المتلاصقة في طرف الملعب الذي دفنته فيه ، كانت هذه الأحجار الكبيرة هي شواهد قبور لروايات مات أبطالها ودفنوا تحت شواهد دون أسماء.
شاعر فلسطيني | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية