في الباص الأخضر، ذاته الذي نقل أحد أقاربه الخضر مثله جموع الإرهابيين إلى محافظة إدلب الخضراء أجلس على مقعد جانبي بينما تتدلى ساقاي دون أن تطالا الأرض، أرتبك دون أن أعلم ماذا أفعل بهما وبما اسندهما. السائق يرتدي بنطالاً مموهاً ويبيع البطاقات للركاب بخمسين ليرة، رغم سعرها البالغ أربعين والمدوّن على تلك الورقة الصغيرة التي أتسلى بلفّها، صحيح أنه لا يرجع اليرات العشر لكنه لم ينسى أن يطفئ مسجلة الباص مع بدء الآذان.
على المقعد قربي يجلس “حامي الوطن” مموهاً من أعلاه لأسفله على عكس سائق الباص، يتسلى بتقليب محادثات الواتس على موبايله، بينما تقف مقابله امرأة تحمل طفلاً رضيعاً بيد وتتمسك بيدها الأخرى بالمقعد الأصفر بينما يهتزّ الباص على المطبّات، قربها امرأتان في منتصف العمر تنظران إلى حامي الديار وتتهامسان عليه، عله يرفع رأسه وينهض لإجلاس المرأة ذات الرضيع.
على يميني امرأة تتحدث على الموبايل، استنتج من حديثها أن زوج ابنتها قد طلقها وأخذ منها الأطفال ورماها وينوي الآن الزواج عليها رغم أنه دون عمل، وهي تطلب من ابنتها الأخرى المطلقة أيضاً أن تستضيفها لديها لأيام معدودة قائلة:
– أنتِ دقتيها.. فما حدا غيرك رح يكون أحنّ عليها..
أما الأم المغلوبة على أمرها فلا تستطيع استضافة ابنتها لأن البيت مستأجر وضيق..
يتداخل حديث المرأة مع حديث الشاب الواقف قرب السائق يطلب من صديقه العسكري عبر الموبايل أن يشتري له سيرف حماة الديار فهو لا يستطيع الحصول عليه لأنه ما يزال وبحمد الله مدنياً.
يستمر الباص بالاهتزاز وهو يمر فوق الحفر التي تركها الهاون على الاسفلت، وتستمر المرأة بالاهتزاز أيضاً ضامة الرضيع لصدرها كي لا يقع منها، ينهض رجل عجوز بساق مكسورة وعكاز لإجلاسها مكانه، بينما يستمر “حامي الديار” بلعب “كلاش أوف تايتانز” على موبايله مخططاً للمعارك هازماً الأعداء دون أن يرفع رأسه عن شاشة الموبايل باتجاه المرأة أو الرجل العجوز الذي بات واقفاً مقابله يراقب من علو تحركاته الاستراتيجية على أرض المعركة.
أفكر بحسين، لم أستطع حضور العزاء، فقط لم أستطيع.
أتعرف أنك كسرت جزءاً من قلبي برحيلك؟
شاهدت صور جنازتك على الفيس بوك، شاهدت تابوتك يخرج ملفوفاً بالعلم الفلسطيني من مشفى يافا، ولكنني لم أستطع حضور العزاء، لم أستطع الاتصال بهنا لأعزيها بك وبفقداننا لك. شعرت بالسخف، ماذا سأقول لها؟ أأحدثها عن غيابك؟ هي تعرف من أنت بالنسبة لي، تعرف من أنت بالنسبة لنا جميعاً وأكثر شخص يعرف ما يعنيه غيابك.
قبرك في نجها، قبر أمك الحجة في مكان آخر، بينما أباك ظل في مقبرة المخيم، حتى في الموت شتات.
قلت لميادة يوماً أن من حسن حظ الحاج أبا حسين أنه مات قبل أن يتهجر من بيته في المخيم وقبل أن تفرغ المصطبة أمام الدار. قبل أن تنتقل الحجة من بيت إلى بيت ويتفرق أولادها في أنحاء أوروبا الواسعة في شتات جديد، أوروبي هذه المرة.
قبل أن تنتقل الحجة من بيت إلى بيت ويتفرق أولادها في أنحاء أوروبا الواسعة في شتات جديد، أوروبي هذه المرة.
أفكر أيضاً بلحظة التوحد تلك، في المسرح، تلك اللحظة التي تصل فيها قبل الجميع، وتبقى جالساً في المقعد الأمامي تدخن سيجارتك بصمت وتنظر إلى الخشبة الفارغة، وحده السكون يحيط بك، وتجتاحك أفكار كثيرة تبدأ بالهروب مع وصول أول الممثلين.
وأفكر بالشاب الذي ترك مخازن سلاحه المليئة بعهدة هيثم قبل أن يهبط إلى الصالة، هكذا أصبحنا، نحضر المسرح بأسلحتنا، فهي الحرب، لكنها لم تمنع عشاق “القوات المسلحة” من الاجتماع في أحد مقاهي ساروجا، هي مموهة من أعلاها لأسفلها وسلاحها في جرابها، وهو أيضاً مموه بالكامل تستند بارودته على حافة الكرسي، يشربان القهوة، يدخنان الأركيلة يضحكان ويحبان.
في العودة تجلس مقابلي عائلة غريبة، لم أفهم بداية من الأطرش منهما، هي أم هو، ومعهما طفل صغير يضحك ويتحدث بالإشارات مع أمه ثم ينظر نحو أبيه، أراقبهم بينما سائق السيرفيس مشغول بلمّ الركاب من الطريق سائلاً قبل كل توقف:
– في معنا محل شي؟
فيجيبونه بالنفي، إلا أنه يتوقف، يحمّل راكباً ثم يطلب من البقية أن يفسحوا له مكاناً حيث لا مكان، وكأننا محشورين جميعاً في زنزانة انفرادية ضيقة. ما أزال أراقب العائلة الطرشاء بينما تهمهم المرأة قربي همهمات استياء من السائق، تتكلم الأم مع الصبي فاستنتج أن الأب هو الأطرش وأفكر بكمّ الحب الذي دفع هذه الأم الصغيرة لتعلم لغة الإشارة من أجل الرجل الذي تحب.
يصعد راكب يرتدي فلتاً عسكرياً، يسلم عليه السائق بحرارة فيستنتج الجميع بأنه “أبو بسام” من كثرة تأهيلات وتسهيلات السائق له، إلا أن تلك المهمهمة المسكينة تعترض أخيراً وبصوت عال على صعوده، فقد التصق بها لدرجة أنها ما عادت قادرة على الحراك، خاصة وأن قربها يجلس اثنان آخران وأبو بسام ثالثهما، في مقعد مقلوب بالكاد يتسع لاثنين لضيقه.
أبو بسام بدوره يفرض شخصيته على الفور حين ينهال بالسباب على المرأة بصوت عال ويتهمها بقلة الذوق فتنكمش تلك في مكانها. كل من في السرفيس يصمتون وكأنهم في قبر جماعي، وقد تحولوا لأرقام بلا أسماء.
– بس تصير عندك بالفرع تبقى حاكيها هيك.. بس هلأ ما بيحقّلك..
أقولها لأبو بسام بهدوء. يتغير لونه ويطلب من سائق السيرفيس التوقف ثم ينزل خابطاً الباب وراءه. يعترض السائق، فأبو بسام ميكانيكي مسكين، كيف سيصل الآن إلى بيته في كل هذا الازدحام؟
مجلة قلم رصاص الثقافية