سناء علي |
“لا أريد أن أتشوه” كان ذلك رد الكاتبة رباب حيدر على دعوة طلابها للجلوس في أحد الأماكن العامة ختاماً للدورة التدريبة التي تشرف عليها في اللاذقية، ” لا دخان نرجيلة، لا أغاني لـ نانسي وأليسا ومثيلاتهن”.
بدأت عملية غربلة المقاهي التي تحقق شروط عدم التشوه كما تراه الكاتبة، لم يطل الأمر بنا كثيراً، فاز مقهى وحيد بالتزكية.
كانت الجملة مثيرة للانتباه، محفزة للذاكرة، للغوص في أدق جزئيات حياتنا وأكثرها تفصيلاً.. لتظهر قائمة لا تعد من التشوهات تجلت بأوضح صورة لها في سنوات الحرب.
بدأت رحلة تشوهاتنا منذ الطفولة، مروراً بالمراهقة، ثم مرحلة الشباب، وحتى الآن لازلنا نختبر أنواعاً جديدة منها.
كيف لا نتشوه وقد اختار لنا معظم آبائنا وأمهاتنا أسماءً تمجد آباءهم وأمهاتهم، أو رموزهم الدينية، لم يتعبوا أنفسهم كثيراً في انتقاء الأسماء كما أخبرتنا فيروز لاحقاً في إحدى أغنياتها… ربما لم يكونوا كسالى كما نعتقد، ولكنهم أرادوا مساعدة الأطراف التي ستتقاتل لاحقاً، في الاختبار الديني والطائفي الذي ستحدد نتيجته حياة أو موت صاحب الاسم.
ثم فرضوا الثياب الزرقاء على الأولاد والزهرية على البنات من دون تفسير واضح، حسناً ربما يكون الشفع x مصبوغاً بالزهري، والشفع y مصبوغا بالأزرق دون أن نعرف.
ثم منعوا الصبي من حقه في البكاء كي يستحق صفة الرجولة، أما الفتاة فعلموها أن أنوثتها تتناسب طرداً مع ضعفها !
كيف لا يتشوه ذلك الطفل الذي حذره أبوه من الكذب لأنه حرام، والكاذب يحرقه الله في النار، وفي المساء قال له الأب ذاته “إذا سأل عني فلان” فقل له أني لست موجوداً ! لا مشكلة إنها ليست أكثر من كذبة بيضاء لا يعاقب عليها القانون.
أو ذلك الطفل الذي تتركه أمه طوال الوقت لقنوات التلفزيون وألعاب الفيديو أو مع مربيته، لأنها عضو فاعل في إحدى الحركات النسائية التي تدافع عن حقوق المرأة وقدسية دورها، وكذلك عضو دائم لدى صالونات التجميل.
كيف لا يتشوه التلميذان اللذان تقاسما المقعد نفسه طيلة سنوات الدراسة، ولم يفترقا إلا في حصة الديانة ” كل واحد إلو نبي عليه”.
أو تلك الفتاة التي اعتبروها مسؤولةً عن هبوط أسهم العائلة في البورصة الاجتماعية إذ أحبت صديقها، فيما كان أخوها سبباً لرفع أسهم العائلة ذاتِها في البورصة ذاتِها عندما اقترف الجريمة ذاتَها. والأخرى التي تعرضت للاغتصاب، فإذا بعائلتها تغتصب حقها في الدفاع عن نفسها درءاً للفضيحة، وإذا لجأت للقانون، يمنحها القانون غطاء للسترة عبر زواجها من مغتصبها.
وهؤلاء الذين تعرضوا للتحرش الجنسي في طفولتهم ولم يتجرؤوا على البوح لأحد، إما لأنهم لم يفهموا ما تعرضوا له، أو لأن المتحرش كان شخصاً من العائلة أو مقرباً منها.
كيف لا يتشوه من كان يحلم أن يكون موسيقياً أو فناناً، رياضياً أو كاتباً.. ولكن أهله حلموا بالنيابة عنه أنه سيكون مهندساً أو طبيباً لا محالة .. كي تزيد أسهم العائلة في البورصة السابقة.
أو تلك الفتاة التي نالت المرتبة الأولى في دراستها الجامعية، فأقسم جميع زملائها حتى الذين لم يعرفوها أنها جميلة ولابد، وأنها بارعة في ” تطبيق الأساتذة “.
وذلك الشاب المرشح لنيل وظيفة جيدة تناسب كفاءته وقدراته العلمية، فإذا بفتاة جميلة تخطف الفرصة على حين غرة، لا بأس للجمال علينا حق.
كيف لا نتشوه ونحن نرى ذلك الرجل المتحررالذي يشجع المرأة على النضال لنيل حريتها وخاصة حرية إقامة العلاقات الجنسية، بينما يطلب من أمه أن تختار له فتاة “ما باس تمها غير أمها” عندما يقرر الزواج. ثم نرى تلك الفتاة التي تهيم بفارس أحلامها الفقير وتقسم له بكل المقدسات أنها ستعيش معه “على الخبزة والزيتونة “وعند أول فرصة مناسبة تصبح من عشاق الكافيار.
كيف لا نتشوه وقد ثقبوا طبلة أذننا بأن العرب أمة واحدة تتشارك اللغة والتاريخ والآمال والآلام، فإذا بنصف أمة العرب لا آمال لها سوى زيادة آلام النصف الآخر.
وعلمونا أن الحرب على الأندلس تعتبر فتحاً إسلامياً، أما الحرب على فلسطين فهي غزو صليبي.
ثم قيل لنا أننا دولة علمانية، ولكننا نستمد معظم قوانينا من التشريع الديني وخاصة قانون الأحوال الشخصية.. ما المشكلة إنه مجرد تبادل للخبرات.
ثم قيل أننا دولة اشتراكية، لكنها تعتمد اقتصاد السوق ..الاجتماعي! لا بأس إنها مجرد خلطةٍ من الأعشاب.
كيف لا نتشوه وكل طائفة تعلم أتباعها أنهم الأقرب إلى الله، وهم وحدهم يمتلكون حقيقة الإيمان الصحيح لذا يجب عليهم الحفاظ على السلالة النقية للطائفة الناجية، وعدم الاختلاط بالطوائف الثانية.
ثم نرى المؤمنين بالفكر الشيوعي يتحالفون مع المؤمنين بالفكر الديني! لا بأس فالمؤمنون أخوة ثم نشاهد من يعير الدولة بأنها لم تحارب “اسرائيل “، يطلق صيحات التكبير كلما قامت هذه الـ “اسرائيل” بقصف تلك الدولة!
ليمارس الفعل ذاته عندما ظن أن الأولى قد شاخت .
ثم نسمع بعض المسؤولين يشيدون بوطنية الأمهات والآباء الذين يرسلون أبناءهم للدفاع عن البلاد، بينما سافر أبناؤهم إلى الخارج للدفاع عن البلاد نفسها عبر الفيسبوك والتويتر!
كيف لا نتشوه ونحن نرى من لم تتسع الدنيا لفرحه بمناسبة تعادل منتخبنا الوطني، قد قرر إرسال موفد له إلى الآخرة ليبث أخبار الفرح هناك، ومثله فعل من فقد عزيزاً، مقرراً توسيع دائرة الحزن لتشمل عائلات جديدة.
كيف لا نتشوه وأشهر مقولاتنا الشعبية المأثورة “يللي بيتجوز إمي بقلو عمي ..الإيد يللي ما فينك عليها بوسها وادعي عليها بالكسر.. ألف أم تبكي ولا أمي تبكي”
كيف لا نتشوه وسائق الحافلة يجبرنا في كل مرة على سماع نفس الأغنيات المفضلة لديه وبنفس درجة الصوت .
نحن النسخة المشوهة عما نحب أن نكون ولكنها نسخة جميلة …نحن المشوهون الأجمل..
الضابط السوري الذي ذهب ليحاور من يقاتلهم أعزلاً من السلاح ويقول لهم: نحن أخوة، هو المشوه الأجمل.
ومثله هم أبناء المدينة المصنفة عاصمة لتنظيم “داعش”، الذين ساعدوا أفراد إحدى الفرق العسكرية في التخفي بزي رعاة الغنم، تجنباً لأسرهم من قبل داعش.
الشاب الذي التحق بالقتال مع المعارضة يساعد ضابطاً في الجيش على الهروب من قبضة باقي رجال الحاجز قائلاً له” اذهب من هذا الطريق يا سيدي ولا تعد إلى هنا “، هو المشوه الأجمل.
ومثله ذلك الشاب الذي أتى بعائلة نازحة تنتمي لطائفة أخرى، وأسكنهم بيته في ذروة السعار الطائفي.
الشاب المقاتل في صفوف الجيش في أحد المطارات القريبة من مدينته، التي يحاصر أبناؤها ذلك المطار يقول لزملائه انسحبوا و”سأغطي عليكم” ليجوب به أهله وأبناء عمومته شوارع المدينة كلها قبل قتله، هو المشوه الأجمل.
ومثله هؤلاء الشبان الثلاثة في الاستوديو العسكري، الذين يدافعون عن الوطن بالبندقية، ثم يعودون ليدافعوا عن أحلامهم وحقوقهم التي يسلبهم إياها بعض شركائهم في الوطن، بالغناء والموسيقى.
الجنود الذين يعودون من مهماتهم فيحمل أحدهم كاميرا التصوير، وآخر يرسم لوحة، وآخران يعزفان أجمل الألحان الموسيقية، من قبو تحت الأرض هم المشوهون الأجمل.
ليست الحرب من شوهتنا، فنحن نسخة مشوهة عما نحب أن نكون، ولكنها نسخة مشوهة جميلة .
مهندسة سورية | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية